يتصدر رئيس المجلس النيابي نبيه بري، حليف حزب الله الأول وشريكه في حكم الطائفة الشيعية في لبنان، مشهد الاعتراض على احتمال وصول الجنرال ميشال عون
لرئاسة الجمهورية.
لنحو سنتين ونصف، جاهر حزب الله بترشيح عون والتمسك به خياًرا وحيدًا لرئاسة الجمهورية، ومنع اكتمال نصاب جلسات البرلمان لانتخاب رئيس غيره، واعترض بري
بصوت ظل يرتفع وينخفض، حسب ما تسمح به ظروف تحالفه مع حزب الله.
في الأيام القليلة الماضية، حّول بري اعتراضه إلى ما يشبه انتفاضة على ترشيح عون، وركز هجومه على سعد الحريري، الذي بعد أن جرب كل الخيارات لإنهاء الشغور
الرئاسي، قرر المضي بتسوية ميشال عون!
كان مطلوبًا من سعد الحريري أن يبقى متراًسا لكل المعترضين على خيار عون، وهم كثر، على ضفتي الانقسام السياسي. وكان مطلوبًا من سعد الحريري أن يحمل على
يديه «دماء» جريمة منعه من الوصول إلى الرئاسة، ويحِّمل السنة، وحيدين، تبعات الاشتباك مع المسيحيين.
المفهوم في انتفاضة بري مفهوم. هو لم يستسغ الجنرال يوًما، ولم يجِر التيار بين الرجلين لحظة واحدة منذ عودة عون من منفاه الباريسي بعد اغتيال الرئيس الشهيد رفيق
الحريري. وهو، أي بري، اعتاد أن يدير جزًءا كبيًرا من اللعبة السياسية منذ عام 1992 ،وفوق رأسه رئيس جمهورية يتراوح بين «المطواع» و«التافه» و«العادي». مع
عون، سيضطر بري للتمرن على علاقة مع الرئاسة فيها كثير من الندية، مع شخصية نزقة وعنيدة كشخصية الجنرال!
المفهوم مفهوم! أما الغريب في انتفاضته، فوضعها في مواجهة سعد الحريري، بدل أن توضع في مواجهة حزب الله، صاحب الخيار الأصلي بترشيح عون، والذراع التي
تضرب يمينًا ويساًرا لفتح الطريق أمامه إلى القصر الرئاسي!
لبنانيون كثر، وعرب أكثر، انتظروا أن ينتفض رئيس المجلس في مواجهة خيارات حزب الله. للحق والتاريخ، انتفض الرجل بصمت ضد تدخل حزب الله في سوريا، ولن
يعثر المراقب على تصريح واحد لنبيه بري يغطي فيه الحرب في سوريا.
انتظره لبنانيون كثر، وعرب أكثر، أن ينتفض في مواجهة سياسات حزب الله التدميرية، لا سيما بعد «حرب 2006 ،«وكان قد سمع منه من سمع، في خلال أيامها العصيبة،
كلاًما «فوق السطوح» بحق حزب الله ومغامرته العسكرية. وقرأ اللبنانيون، وقرأ العرب، بعض هذا الكلام واردًا في صيغ برقيات دبلوماسية كشف عنها موقع ويكيليكس، ولا
حاجة الآن لإعادة التذكير الحرفي بها كي لا يحسب الكلام نكأً للجراح!
انتظره لبنانيون كثر، وعرب أكثر، أن ينحاز إلى جانب المدنيين العزل يوم اجتاح سلاح حزب الله بيروت وجبل لبنان، في 7 مايو (أيار) 2008 ،لا أن يغلب خيار وحدة
الطائفة الشيعية، وسلامة العلاقة بين حركة أمل وحزب الله، على كلمة الحق في وجه سلطان جائر!
وظل الرهان عليه قائًما، وسيظل، رغم الحاصل اليوم، وكل ما حصل بالأمس!
في الأيام الماضية، نسب إلى الرئيس بري كلام «عالي السقف» عن تفرد الحريري بالقرار، وعقد اتفاقات جانبية، ودعوة الآخرين «للبصم عليها من دون إشراكهم في استيلاد
القرار». واتُهم الحريري بتوزيع «فرمانات» من مقر إقامته بشكل خذل رئيس المجلس!
من يسمع هذا الكلام يظن لوهلة أن كل حديث حزب الله عن ترشيح عون، والتمسك به خياًرا وحيدًا وطريقًا فريدًا لكسر حلقة الفراغ، هو من نسج خيالنا، ولم يحصل في
الواقع. بل يظن السامع أن حزب الله وحركة أمل قد أعلنا ترشيح شخص آخر، رد عليه الحريري بتجاوز اتفاقهما نحو مرشح معاكس، هو الجنرال عون!!
أليس ترشيح عون هو «بصم» على مرشح حزب الله، بعد سنتين من الشغور القاتل، والاستنزاف المخيف للدولة وهيبتها ومقدراتها وسلامتها المؤسساتية والاقتصادية
والنقدية؟
أليس سعد الحريري هو من في موقع «البصم»، وتبلُغ الفرمانات التي صم حزب الله آذاننا بها منذ نحو سنتين ونصف، بلا أي معارضة جدية من حلفاء حزب الله، سوى الدلع
الاعتراضي، ودائًما على قاعدة أن موقف سعد الحريري يكفي لمنع عون من الوصول، فلماذا نحمل أنفسنا مسؤولية مواجهته؟

انتفاضة بري، بصرف النظر عن كل القنابل الدخانية، التي تتخذ شكل الهجوم على الحريري، هي انتفاضة في مواجهة حزب الله، أو هكذا ينبغي أن تكون كي تكتمل
مصداقيتها. انتفاضة في مواجهة هيمنة السلاح على الحياة الوطنية، بعد أن شعر «الثور الأبيض» أن أنياب حزب الله وصلت لعنقه، وقد صمت طويلاً أمام التهام «الثور
الأسود»!
انتظرناك طويلاً، وسنظل ننتظر، أن تكون في الموقع الطبيعي لكتلة شيعية وازنة أرهقها تكاذب الثنائي الشيعي. انتظرنا انتفاضتك طويلاً، وسنظل ننتظر. أما التغليب الدائم
لوحدة الطائفة الشيعية، وتمويلها من جيب تشظي الطوائف الأخرى، لا سيما السنة، فمؤداه واحد:
جميعنا نستأهل عون رئيًسا لأننا، كل من موقعه، تخاذلنا في مواجهة السلاح!