تكاد تكون جملة «لا نريد الحرب» هي القاسم المشترك الأوضح في خطاب عموم الأطراف الداخلة في أزمة إيران مع المنطقة ومع أميركا. تقول إيران إنها لا تريد الحرب. ومثلها السعودية والإمارات وأميركا وإسرائيل، غير أن الجميع يتصرفون على قاعدة أن الحرب واقعة، لا محال، وتحديداً بشكلها العسكري التقليدي. التحشيد العربي، الأميركي، الإسرائيلي من جهة والخرمشات الإيرانية في غزة والمنطقة الخضراء والإمارات والسعودية، كلها تقول إن الحرب العسكرية ليست احتمالاً بعيداً أو أن الانزلاق نحوها يتطلب الكثير.

أما تشديدي على الحرب بشكلها العسكري، فلأن الحرب دائرة أصلاً بشكلها الاقتصادي البالغ القسوة على إيران. وهي وإن كانت حرباً أميركية بالأساس، على صلة بالاشتباك حول الملف النووي الإيراني، إلا أن كلاً من السعودية والإمارات، ولحساباتهما النووية وغير النووية، شريكتان مباشرتان وعلنيتان فيها، من خلال تعهدهما بتعويض النقص النفطي لمن يلزم، جراء خروج الناتج النفطي الإيراني من السوق، ومن خلال التعبئة السياسية والإعلامية والدبلوماسية المرافقة لتصعيد الموقف من قِبل نظام الملالي. آخر البيانات المتوفرة تفيد بأن العقوبات قلّصت الناتج الإيراني إلى ما دون خمسمائة ألف برميل في اليوم، بالتوازي مع الكشف عن معلومات أن الخزانة الأميركية جهّزت حزمة عقوبات جديدة تطال مجمل قطاع البتروكيماويات الإيراني... وهذا بمثابة رصاصة في رأس الاقتصاد.

السؤال الأدق هو كيف ستتطور الحرب القائمة، وفي أي اتجاه، وبأي حدة، وليس ما إذا كانت ستقع أم لا؟

بموازاة ذلك، تنتشر الغمغمة هنا وهناك عن قنوات التفاوض المفتوحة بين إيران والأميركيين، تارة في عُمان التي تحدث وزير خارجية أميركا مايك بومبيو إلى السلطان قابوس عبر الهاتف، وتارة بعد الإعلان عن استقبال الرئيس الأميركي دونالد ترمب، نظيره السويسري في البيت الأبيض، وكلتا الدولتين شكّلتا في الماضي البعيد والقريب قنوات للحوار الأميركي الإيراني، الناجح منه والفاشل، والمنتج منه والعقيم.

وهنا أيضاً يعمّ وهمٌ آخر، وهو أنه بمجرد الحديث عن الحوار يقفز البعض، إما في معسكر المتشائمين الخائفين من صفقة على حسابهم وإما في معسكر الواهمين بأن إيران حصدت مبتغاها، للاستنتاج أن إيران وأميركا عقدتا الصفقة المثالية لمصالح طهران وواشنطن!
مهلاً.

أميركا دونالد ترمب تريد اتفاقاً نووياً أفضل، يضمن للأبد، وليس لعقد من الزمن، إقفال السبل أمام استحواذ إيران على القنبلة النووية. وأميركا دونالد ترمب تريد أيضاً نقل إيران من خانة الثورة، إلى خانة الدولة، مع ما يستلزم ذلك من إقفال دكاكين الميليشيات في الشرق الأوسط وبتر أذرع الأخطبوط المافيوي الإيراني الممتد نحو أفريقيا وأميركا اللاتينية والحدائق الخلفية لواشنطن، عبر كارتيلات تبييض الأموال وتجارة المخدرات وغيرها من أوجه الجريمة المنظمة.

أما إيران فتريد تفاوضاً يعينها على تجميد العقوبات عند الحد الحالي، وامتصاص اندفاعة ترمب، وإرباك الحيوية العربية التي تقودها السعودية بالشراكة مع الإمارات ومصر، من دون أي معالجة جدية لأصل المشكل. فالتفاوض الجاد يعني أن إيران الملالي اتخذت قراراً استراتيجياً بألا تعود إيران الملالي، وهو ما لا دليل عليه حتى الآن. ولا أعتقد أن الإدارة الأميركية الحالية معرّضة للسقوط في فخ لعبة شراء الوقت، لا سيما أن أركان الإدارة السابقة يعترفون بأن أحد أكبر الأخطاء الاستراتيجية في التعامل مع إيران هو عدم شمول الاتفاق السابق معالجة لدورها الإقليمي التخريبي. آخر «الاعترافات» في هذا السياق ما قاله مهندس التفاوض النووي السري مع إيران ويليام بيرنز، في كتاب مذكراته بعنوان «القناة الخلفية»، إذ يؤكد أنه «كان بإمكاننا القيام بالمزيد لنُظهر للإيرانيين أن الاتفاق النووي هو بداية وليس ختام السياسة المتشددة تجاه إيران».

بإزاء هذا الفارق العظيم بين ما تريده واشنطن وما تريده إيران من التفاوض، لا تبدو حظوظ الحلول الطرية عالية.

إلى ذلك، غالباً ما يهمل المراقبون الحسابات المستقلة لما أسميها دول «الخمسة زائد واحد» المعنية بالمشكلة الإيرانية، وهي غير الدول التي فاوضت على الاتفاق النووي. الخمسة زائد واحد التي تعنيني هنا هي السعودية والإمارات ومصر والبحرين وإسرائيل زائد روسيا، باعتبارها من دول المنطقة، منظوراً إليها من زاوية علاقتها بإيران وعلاقتها بإسرائيل لا سيما في سوريا حيث تبني موسكو منصة حضورها وتأثيرها السياسي في الشرق الأوسط. بتفاوت، تمتلك هذه المجموعة مشكلات رئيسية مع إيران، يصل بعضها إلى حد كونها أسئلة مصيرية ووجودية، وهي لن تغامر مجدداً في ترك الأمور تذهب باتجاه ترتيبات تسمح لإيران بإدامة مشروعها، حتى ولو تعارضت حساباتها مع واشنطن. يجب ألا يسقط من حسابات أحد أن السعودية والإمارات ضمن «قوات درع الجزيرة» دخلتا إلى البحرين في ربيع 2011 من دون إعلام واشنطن التي كان وزير دفاعها بوب غيتس قد زار المنامة قبل 48 ساعة من قرار عبور الجسر.

اللحظة الراهنة كأنها عام 1967، بحربها الباردة العربية العربية بين الأنظمة المحافظة والأنظمة الثورية، وبالاستغلال التعبوي للموضوع الفلسطيني وشعارات المقاومة ومكافحة الإرهاب. بدل عبد الناصر يومها، نظام الملالي اليوم. وما أشبه الأمس باليوم. نظامان منهكان اقتصادياً وفي أقصى درجات الشراهة للدور الإقليمي، تقابلهما دول تحكمها نخب جديدة متحفزة، قادرة، وصاحبة قرار.