عزيزي رجب:
إسمح لي أن لا أخاطبك بِـ"فخامة الرئيس"، لسبب رئيسي على الأقل هو فارق السن الهائل بيننا، وهو إذا كنتَ تعرف... يقارب القرن ونصف القرن، فأنا وُلِدْتُ في 29 تموز عام 1805 وأنتَ وُلِدْتَ في 26 شباط عام 1954.

 

في الفترة التي سبقت زيارتي إلى الولايات المتحدة الأميركية (1831) حصل في بلادكم حدثٌ كبير هو قضاء السلطان محمود الثاني في اسطنبول على الفرقة العسكرية من الجيوش العثمانية الشهيرة باسم "الانكشارية" (1826). أشير إلى ذلك لأن تجربتك في الانتقال من حاكم صاعد عام 2002 يحمل شعار تجديد الوضع التركي سياسياً واقتصادياً إلى حاكم متسلِّط منذ العام 2013 بل إلى حاكم يحكم عبر ترهيب معارضيه في المجتمع والدولة كما صرّح كثيرون من السجون ومن خارج السجون كما من داخل البلد ومن خارجه وآخرهم الروائي الكبير حامل جائزة "نوبل" أورهان باموك... تجربتك هذه تذكّرني بتجربة "الانكشارية" أنفسهم. فالكثيرون لا يعرفون أن هذا الاسم الذي أصبح رمزاً لتخلف وانحطاط الدولة العثمانية كان لقرون، وبمعايير الأزمان السابقة، أحد عناوين تقدمها وصعودها لأن مؤسسيه من السلاطين الأوائل اعتمدوا عليه كقوة عسكرية شبابية متكونة على أسس غير طبقية. المعنى الأصلي للإسم نفسه، "الإنكشارية"، في اللغة التركية هو "يني تشري" أو "الجندي الجديد" (يَني جديد، تْشَري جندي).
لقد كنتَ انكشارياً "جندياً جديداً" بالمعنى الأصلي كحامل لمشروع تحديثي وقف فيه معك أفضل النخب التركية من العلمانيين والليبراليين واليساريين وأصبحتَ الآن "انكشارياً" بالمعنى الذي صار يمثله الانكشارية كقوة متخلفة متسلطة على المجتمع وعبء حقيقي ثقيل على تطوره التحديثي.
في مرحلتك التسلطية هذه تتحوّل تركيا من بلد كان واعداً واستثنائياً في العالم المسلم من حيث جمْعُهُ بين الاسلام والحداثة إلى فضيحة إسلامية جديدة وأكاد أقول إلى فضيحة حضارية. أعرف أنني انتُقِدْتُ كثيراً ولا أزال خلال 175 عاماً على موقفي وآرائي من استعمار الجزائر الذي كنتُ فيه مؤيداً شرساً للاستعمار الاستيطاني الفرنسي للجزائر، ولكن أهم ما انتُقِدْتُ عليه هو موقفي من الدين الإسلامي لأنني ألغيتُ فيه، أي هذا الموقف، أي مجال لقدرة هذا الدين على التقدّم في العصر الحديث.
أمثالك، ولاسيما أنتَ حالياً، يشكّلون دعماً لفكرتي السلبية جداً هذه عن الإسلام والمسلمين، مع أنني في فترة لاحقة، أي بعد موتي، وأمام تطورات القرن العشرين، كنتُ لو أتيحت لي المراجعة، لعدّلتُ رأيي في حال استمر تطور تركيا التحديثي والديموقراطي حتى لو كانت بقية العالم المسلم أو معظمه يرزح تحت أسوأ وأوحش أنواع التيارات الأصولية التكفيرية.
في كتابي "عن الديموقراطية في أميركا" الذي أعتز به وعلمتُ أنه أصبح أحد أكبر كلاسيكيات العلوم السياسية، كتبتُ مرةً أن "الديموقراطية مثل أطفال الشوارع تربّي نفسَها بنفسها". هذا ما صحّ تاريخياً في أوروبا وأميركا ولكنه لم يثبت حتى الآن أنه صحّ في العالم المسلم مع أن هذا العالم شهد في أواخر القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين نهضة فكرية لنخبة مسلمة وعربية أدارت تجارب ديموقراطية في مصر والعراق وسوريا ولبنان وشاركت في حركات تحرر ذات فكر ديموقراطي في الهند وأفغانستان. كانت كلها مشاريع تجارب سرعان ما بدأت التراجع في النصف الثاني من القرن العشرين وهي تستمر في التراجع. في العالم العربي هناك اختلاف حول من يتحمّل مسؤولية التراجع: تأسيس إسرائيل الذي أدى عربياً لانتقال السلطة إلى الجيوش تحت شعار التحرير أم العطل التخلّفي البنيوي في المجتمعات المسلمة وهذا رأيي كما أشرتُ سابقاً؟ أما في تركيا، تركيا التي باتت تُنسَب إليك الآن، فمن يتحمّل المسؤولية غيرك وغير الجناح الديني الراديكالي في حزبك؟
بدت تركيا استثناء رائعاً قبل قمعك لمظاهرات ساحة تقسيم في صيف 2013. وهذه الساحة ربما تدخل التاريخ كنقطة تحوّل انتكاسية كما دخلت كومونة باريس عام 1848. انتبهْ أخ رجب، الأحداث في بلدان مختلفة لا يمكن أن تكون متطابقة. فالملَكِيّة الأورليانية سقطت يومها ولكن الثورة سرقها ديكتاتور جديد وأنتَ لم تسقط بعد "كومونة تقسيم" لا ديموقراطيا ولا انقلابياً. لكن تأثيرات الأحداث المتباعدة صالحة للمقارنة. فمع الموجات القمعية بل الاستئصالية الهائلة التي باشرتَ بها في السنوات الثلاث ونيِّف الأخيرة، قبل الانقلاب العسكري وبعده، انتهى هذا الاستثناء التركي. أنتَ الآن حاكم "عادي" من العالم الثالث مستعد لأي تنازل مع الخارج من أجل تمتين سلطته الداخلية. بينما غير العادي، والناجح هو أن تكون أنتَ لوناً أيديولوجياً مختلفاً ذا حساسية دينية داخل النظام العلماني وعلامةً من علامات قوته شرط التناوب على السلطة وليس مصادرتها بأي ثمن كما تفعل بحجة شعبوية انتخابية بات مشكوكا بنوع استخدامها أمنياً وسياسياً وحتى قانونياً.
ربما تعرف يا رجب أردوغان أو يمكنك أن تسأل فيُقال لكَ، أن أحد أهم أسباب نجاح كتابي "عن الديموقراطية في أميركا" ليس فقط متانة العرض والتوصيف والتحليل المبكر للحالة الأميركية، مع أنني استخدمت أحياناً صياغات أدبيةً لم تُخفِّف على ما يبدو في نظر أساتذة العلوم السياسية من أهمية الدقة في كتابي هذا... بل أثبتت أن الصياغة الأدبية الذكية والمبدعة للتحليل السياسي هي عنصر تعميق له... مع ذلك فإن أقوى ما في كتابي هو استشرافي المبكر لعناصر القوة الهائلة لهذه المنظومة السياسية التي ستهيمن على العالم بعد قرن من وفاتي ليس في العسكر فقط، وإنما أيضاً في الثقافة والتعليم والاقتصاد والتكنولوجيا. المنظومة السياسيّة التي تُسمّى الولايات المتحدة الأميركية.
وعليّ أن ألفت نظرك أن كتابي "عن الديموقراطية في أميركا" تنبّأ مبكراً بتنافس سيطبع العالم هو التنافس الروسي الأميركي لأن روسيا، كما اسْتَشْرَفْتُها، منظومةٌ جغرافية سياسية ضخمة. وقد علمتُ لاحقاً وباهتمام شديد أن منظومة سياسية ضخمة تقدمت إلى الصفوف الأولى في التنافس العالمي وتجاوزت روسيا اقتصادياً هي الصين. صحيح أنني ذكرت بشكل محدود بل هامشي تجربة نظام الحكم التقليدي في الصين الذي استطاع أن يُنشئ بيروقراطية مركزية فعالة تُسهِّل عليها السيطرةَ على المجتمع إلا أنني ساجلتُ أن هذه البيروقراطية تُوجِد رعايا لا مواطنين، ولكني لم أتوقّع أبدا عودتها كقوة عالمية صاعدة في القرن الحادي والعشرين.
يمكنك أن تسأل يا رجب طيِّب أردوغان وسيقال لك أن جوهر كتاباتي معنية بتحول الأنظمة السياسية وتطورها. لذلك لا شك أنني لو أعود حيّاً سأُعنى بتركيا كمثال على حدود التطور ومحدوديته في العالم المسلم وكنت سأخالف المتفائلين بالتجربة العلمانية حتى لو أنني أرى أن الوهم الذي كان يُعتَبَر الاستثناء التركي في العالم المسلم على إمكان مصالحة الإسلام مع الحداثة هو أساساً نتاج جهود الأجيال العلمانية منذ تأسيس الجمهورية. وأنت الدليل على قصوره باعتبارك الأصولي الإسلامي الذي أنتجته العلمانية.
يا عزيزي رجب
أنا لا أقول أنه يمكن إصلاح خسائر تركيا "التطورية" بعد امتداد النزعة التسلطية الرهيبة على الحكم. أنا كنتُ وزير خارجية نابوليون الثالث لبضعة أشهر وهو أحد السياسيين المخادعين التاريخيين الكبار، وأنتَ تشبهه في الوصول الديموقراطي ثم الانقلاب على الديموقراطية... كنتُ وزيره واستقلتُ. لم أبقَ طويلاً في الحكم عكس ما فعل "توكفيلكَ" أحمد داوود أوغلو المثقف الذي نقلْتهُ أنت إلى السلطة... فغطى أحمد داوود أوغلو ممارساتك طويلاً في السياستين الداخلية والخارجية كوزير للخارجية ثم كرئيس للوزراء قبل أن يكتشف أنه لم يعد قادراً على تحمُّلِ نزواتك فاستقال هذا العام 2016. ولو سألني السيد أوغلو كزميل باحث في العلوم السياسية متى كان يجب أن يستقيل لقلتُ له عندما كنتَ وزيراً للخارجية وبعد أن ظهر إفلاس نظريتك الديبلوماسية عن "صفر مشاكل" وبالتالي انْهار" كتابُك "العمق الاستراتيجي" بسبب مغامرات وانحرافات "نابوليونكَ الثالث" التركي الذي هو أنتَ عزيزي رجب.
في "عن الديموقراطية في أميركا" كتبتُ أن أي حكومة تريد تدمير الحريات المدنية لا طريق أمامها أفضل من الحرب الطويلة أو الحرب الدائمة. وها أنتَ داخل حدود تركيا وخارجها تطبِّق هذه المعادلة.
أمر واحد يساوي الأعجوبة يمكنه ربما أن يصحح صورتك والأهم أن يتيح ربما الأمل بإعادة الاعتبار للمسار الديموقراطي في تركيا: اسْتقِلْ ... وهذا أفضل بكثير لأنك تتصرف أو بتَّ تتصرف كأنك إما قاتل أو قتيل.
وهذه أبشع سمات أنظمة التسلّط..
أخيرا وبعد أن أنهيتُ كتابة هذه الكلمات ذهبت إلى جاري حيث أقيم اليوم، الجنرال مصطفى كمال أتاتورك، وسألته إذا كان يريد أن يبعث لك بأي توصية؟ فقال لي أن أخبرك أنه ينزعج كثيراً عندما يسمعك تكرر أن الضباط الكثر، الكبار والصغار، الذين قاموا بالانقلاب داخل الجيش هم من جماعة فتح الله غولن الإسلامي. وأنه مع احترامه للسيد غولن، يعتبر ذلك دعابة ثقيلة ومسيئة له فضلاً أنك تعرف أنها غير صحيحة لأن الجيش أتاتوركيٌّ. ثم انصرف مسرعاً ممتنعاً عن أي كلام.
هل تعتقد عزيزي رجب أن الجنرال مصطفى كمال أتاتورك يحضِّر لانقلاب آخر؟
كلي قناعة بأن الأوان قد فات على تصحيح نهجك. ليس مصيرك السياسي هو الذي يعنيني بل كل الخوف أن يكون قد فات الأوان على "استعادة" تركيا. لأن تدهوراً عميقاً كالذي حصل لا يستطيع انقلاب عسكري أن يصحِّحه بل يزيده تهوراً.
مع دعائي الحار أن يطيل الرب عمرك البيولوجي ولكن ليس السياسي.
أليكسس دوتوكفيل.