شاركتُ أمس الأول أمام مقهى لوغراي بتظاهرة نخبوية أؤمن بأفكارها ولا أؤمن بجدواها. هي المبادرة - الدعوة التي قام بها شبلي ملاط وسعود المولى وأنطوان قربان وعدد من أصدقائهم العاملين في الشأن العام وتتمحور حول الإلحاح - الإلزام الدستوري بملء الفراغ في رئاسة الجمهورية.

إذْ تستخدم الوثيقة الصادرة عن الملتقى الذي انطلقتْ منه تعبيرَ "الفراغ المتمادي" فهي تُذَكِّرُني بتعبير جنائي هو "الجريمة المتمادية" المستخدم في القانون الجزائي والذي يعتبر الجريمة المتمادية هي الجريمة التي تُنتِج جرائم متواصلة مختلفة سبّبَتْها الجريمة الأولى.
أؤمن بصوابية اعتبار أن عدم انتخاب رئيس للجمهورية يشكِّل انتهاكا صارخاً للدستور. ولكني لا أؤمن أن اعتراضاً بل اعتراضات كتظاهرة لوغراي يمكنها أن تؤدي إلى نتيجة جادة. فحتى القوى النيابية التي تدعو إلى عقد جلسة انتخاب الرئيس تطرحها لا كقناعة بل كعنصر إحراج للطرف المعطِّل. ومن يدري ربما تنقلب الأدوار بين الكتل النيابية حسب ارتباطات أحزابها فيصبح المعطِّلُ مُسهِّلاً والمسهِّلُ الظاهري الحالي معطِّلاً؟ وإن كان، بعيداً من الجدل الدستوري، فإن المعطِّلين ينتمون عمليّاً للفريقين.
أهم شعار طُرِح في التظاهرة كان: "لا فارسية ولا سعودية. بدنا جمهورية لبنانية"... مما يجعلنا في صفوف تظاهرة لا شك بنزوعها إلى الاستقلالية أو استقلالية منظميها.
المستقِل في لبنان هامشي لذلك تنشأ مرة أخرى مشكلة صحة الفكرة وعدم فعاليتها في آنٍ معاً؟
هل يؤدي هذا التناقض إلى سذاجة سياسية تطبع الحركة القائمة بها؟
هل يغيب الفارق بين الساذج والخبيث حين يصبح الاحتجاج تجوالاً قسرياً بين زواريب السياسة اللبنانية التي هي في هذا الموضوع الرئاسي بالذات سياسة غير لبنانية؟ أسئلة لا بد أنها تراود كل قارئ منتَبه.
حمل المتظاهرون (القِلّة عددياً والكُثُر نوعيّاً) نسخة من نص الدستور مُضافَةً إليه المرافعة الدستورية التي تتوجّه لمجلس نواب مُمدّدٍ، إذن غير دستوري، ولكنْ تُطالبه في الآن معاً بانتخاب فوري لرئيس الجمهورية بناءً على تفنيد نصوصي لما تعتبره "فكرة بسيطة" تضمنها الدستور لانتخاب رئيس الجمهورية فـ"انكفاء التعطيل لا يمر بإيران أو بالسعودية ولا بمعركة حلب أو الانتخابات الأميركية".
لن يقول أحد للأكاديميين والقانونيين والناشطين في الشأن العام الذين سيتجمّعون كل ثلثاء أمام مقهى لوغراي، حسب قرار المنظمين حتى إشعار آخر، عكس هذا الكلام. فسياسة التبعية اللبنانية باتت ناضجة وعاهرة ومزمنة أكثر بكثير من أن تسمح لأحد بجرها إلى لغة اعتراف بسيطة.
أسأل نفسي قبل غيري: إذا كانت هذه هي الصورة الحالية اليائسة للتحرك "الرئاسي" القانوني فما جدوى المشاركة؟
أقول هنا باسم حالي فقط أنني "لا أريد انتخاب رئيس" بقدر ما أريد "انتخاب" دستور. التذكير بالدستور ونصه، حتى دستور نظام طائفي، هو المجال الوحيد المفتوح لفكرة عقلانية عن "الوطنية اللبنانية" المهشّمة والمغتَصبَة تقليدياً بين مجموعة خرافات ثقافية ومجموعة ارتباطات سياسية ينشدّ إليها اللبنانيون. ارتباطات صارت بنيوية أكثر من أي وقت سابق في تاريخ هذه الجمهورية التي تعيش الآن بين "فالِقَيْن": حرب أهلية إقليمية سنية شيعية وقلق مسيحي إقليمي على الوجود أو ما تبقى منه في المحيط.
أَنْخَرِط إذن مع هؤلاء المحترمين والمحترمات في حركة دستورية. حركة ترويج نصوصي أكثر حتى من كونها سياسية.
المفكر الألماني يورغن هابرماس هو أول من جعل مصطلح " الوطنية الدستورية" مصطلحاً رائجاً في أوروبا. الوطنية الدستورية، أي الوطنية الخالية من الخرافات، والواقعية جداً التي يستلهمها القانونيون لا الأيديولوجيون.
حركة لا بأس أن تبني برنامج أنشطة فكرية وقانونية واجتماعية واقتصادية وتربوية لدراسة موقع وتأثير المضمون الدستوري على الحياة العامة اللبنانية باعتباره العقد الرئيسي المفتَرَض بين اللبنانيين. إذن "ثينك تانك" دستوري. أكثر قليلا وأقل قليلاً.
في زمن انهيار بعض "وطنيات" المنطقة المحيطة دولاً ومجتمعات... يبدو السلم اللبناني الحالي (والجدّي) هبةً دولية وإقليمية سعودية إيرانية وليس حصيلة نضج داخلي لبناني، فلا نضج بلا عَقْدٍ دستوري مُمارَس.
وطنيتنا كفعل داخلي هي وطنية افتراضية. ولا أعرف كم تعني هذه المسألة الجيل الجديد الذي لا يزال يتدفّق على طريق المطار... نحو الخارج.
بهذا المعنى لدينا حالياً سِلم غير وطني. سِلم غير دستوري! أيهما أهم السلم أم الوطني؟ سؤال شديد التعقيد.