أولاً: الحرب "الأهلية" اللبنانية..
عندما اندلعت الحرب الأهلية في لبنان توافق الجميع على إطلاق هذا النعت على هذه الحرب، في حين كان العامل الفلسطيني حاضراً بقوة ولاعباً أساسياً، ثم جاءت قوات الردع العربية (السورية فيما بعد) لتدخل لاعباً إضافيا وأساسياً، وتدخّل العامل الليبي بالمال والسلاح، واكتملت الجوقة بحضور الحرس الثوري الإيراني موجهاً ومدرّبا ومُموّلاً لتنظيم جديد :حزب الله، دون أن ننسى العامل الإسرائيلي "الغاشم"، مع أنّ النعت قد يطال الجميع، فاختلط الحابل بالنابل، والصالح بالطالح، والسّيئُ بالأسوأ، حتى اهتدى اللبنانيون إلى أوصاف جديدة للحرب الدائرة في ربوعهم، فزعموا أنّها "حرب الآخرين على أرضنا"، وبذلك نزّهوا أنفسهم عن لعبة الحرب القذرة وجرائمها ومخازيها.
ثانياً: هل يقتتل الأهل "العرب"؟..
هل يقتتل الأهل؟ ويخوضون حروباً طاحنة، يستبيحون فيها دماءهم وأموالهم وينتهكون أعراضهم؟ معاذ الله، حسب ما ورد في اللغة والتنزيل وماثور العرب، فالاهلُ في اللغة عند ابن منظور: أهل الرجل وأهل الدار، وعند ابن سيده: أهل الرجل عشيرته وذوو قُرباه، والجمع أهلون وآهالٌ وأهالٍ وأهلات. وفي الحديث: أهل القرآن هم أهلُ الله وخاصّتهُ أي حفظة القرآن، العاملون به ،هم أولياء الله والمختصّون به اختصاص أهل الإنسان به. وفي حديث أبي بكر في استخلافه عمر: أقول له، إذا لقيتهُ، (أي ربّه) استعملتُ عليهم خير اهلك؛ يريد خير المهاجرين، وكانوا يُسمّون أهل مكة أهل الله تعظيماً لهم، كما يقال بيت الله، وفي حديث أم سلمة: ليس بك على أهلك هوانٌ؛ أراد بالأهل نفسه، عليه السلام، أي لا يعلقُ بك ولا يُصيبك, هوانٌ عليهم.
وأهلُ الإسلام: من يدينُ به، وأهل الأمر: وُلاتُه، وأهل البيت سُكّانه، وأهل بيت النبي: أزواجه وبناته وصهره، أعني عليّاً ، عليه السلام، يقول ابن منظور، وقوله عزّ وجلّ لنوح عليه السلام: إنّه ليس من أهلك؛ قال الزّجاج: أراد ليس من أهلك الذين وعدتُهم أن أُنجيهم.
ثالثا : حروب "أهلية أم برّية" ووحشية؟..
وعن ابن منظور: كل شيءٍ من الدواب وغيرها ألف المنازل أهليٌّ وآهلٌ؛ الأخيرة على النسب، وكذلك قيل لما الف الناس والقرى : أهليٌّ ، ولما استوحش برّيٌ ووحشي كالحمار الوحشي. والأهليُّ هو الإنسيّ، ونهى رسول الله عن أكل لحوم الحُمُر الأهلية يوم خيبر؛ هي الحُمر التي تألف البيوت، ولها أصحاب، وهي مثل الأُنسية ضدّ الوحشية
وقولهم في الدعاء: مرحباً وأهلاً؛ أي أتيت رُحباً أي سعة، وفي المُحكم أي أتيت اهلاً لا غُرباء، فاستأنس ولا تستوحش، وأهّل به: قال له: أهلاً، وأهل به: أنس.
وبعدُ، هذه الحروب التي يقتلعُ فيها الناس من ديارهم وارزاقهم ويُرمون في اقاصي المعمورة، وتُهدّم البيوت على رؤوس من لم يستطع سبيلاً للخروج، وتُنظّمُ المجازر بأحدث الطائرات والأسلحة الفتاكة، هل يصح تسميتها حروب أهلية، بعد أن توحشت وأوغلت في التوحش؟ وأُوكلت إدارتُها لوحوشٍ عالميين، ومُنفّذوها وحوشٌ محلّيون ، يتهالكون على مواقعهم ، وعندما يبيدون، قد يقول الآخرون الذين سيرثونهم: كانت حروب الآخرين على أرضنا.