"نعم لأنطوان، لا لإسرائيل". كان هذا شعار رئيس "الحزب التقدمي الإشتراكي" وليد جنبلاط، حين رشّح أنطوان الأشقر لرئاسة الجمهوريّة، مع إقتراب عهد الرئيس أمين الجميّل من النهاية، في العام 1988.

لم يكن الشعار وحده مزحة. الترشيح نفسه كان نكتة لم يقبضها وقتها إلا الأشقر نفسه. فقد شاء جنبلاط بهذا الترشيح السخرية من رئاسة الجمهورية و"دفاع القوى الإنعزالية الطائفية" عنها باعتبارها امتيازاً. وقد اختار جنبلاط الأشقرَ لهذه الغاية، لا لكونه "من آخر المسيحيين في حزبه" فحسب، ولا لكونه "بلا وزن مسيحيّاً" فحسب، ولا لكونه "غريم" أمين الجميّل ونموذجاً شخصياً نقيضاً له فحسب، إنما لكونه شخصاً غير مناسب للرئاسة الأولى. هكذا، ببساطة. فالأشقر إنسان مهضوم، وفق ما يروي كثيرون سهروا معه وضحكوا، ومنهم وليد جنبلاط. ويروي، أي الأشقر، حكايات عن خروجه آنذاك من المنطقة الشرقيّة، تصوّره الخصم الأبدي المزعج والقوي لآل الجميل، في المتن الشمالي خصوصاً، وتصّور هؤلاء مركزين عليه وهمّهم إزاحته والراحة منه. فهو لم يترشّح في الانتخابات النيابيّة، في فرعيّة 1970، بوجه أمين الجميّل فحسب، إنما "سرق بشير الجميل حجارة بيته التراثي ليبني منها منزله في بكفيّا". وقد نال من الأصوات 1384، رغم أن عائلته منتشرة في المتن ولعل المقترعين من أبنائها يتجاوزون هذا العدد. ونال الجميل 16973 صوتاً (كتاب "موارنة من لبنان" لحازم صاغيّة).

ورغم ذلك، ورغم اتفاق الأشقر مع فتوّات حكموا بيروت وزواريبها وشوارعها آنذاك، على خطف مرابٍ كي يتنازل عن مبلغ كان استدانه الأشقر منه ولم يقدر على سداده، وبعد إنجاز المهمّة فر الأشقر إلى الجبل متملصاً من سداد "وعده" للخاطفين، رغم هذا، رحّب عضو "الجبهة اللبنانيّة"، مع بيار الجميل وكميل شمعون، إدوار حنين، بترشيح جنبلاط مارونيّاً إلى سدّة الرئاسة. كأنّ حنين صاحب التجربة الطويلة لم يلتقط نكتة جنبلاط ورسالته. أسكره أن المرشح ماروني، ورأى في ذلك إلتزاماً من جنبلاط بالنظام الطائفي واعترافاً منه بحق الموارنة في كرسي الرئاسة الأولى، بعد ثلاث عشرة سنة من الحرب.

كان وليد جنبلاط مدركاً استحالة وصول الأشقر إلى قصر بعبدا. ولهذا رشّحه. آنذاك، مازح السياسة وعبث الحرب، و"جاكر" أمين الجميل وقال لـ"الجبهة اللبنانيّة" إن ما تواصلين الحرب لأجله "سخيف". لكن جنبلاط نفسه، بعد 17 سنة، في الانتخابات النيابيّة 2005، حمل على بساط الريح خاصّته مرشّحاً آخر إلى المقعد النيابي الماروني في طرابلس. وإذ كان في مكان ما ساخراً من اللعبة السياسية والطائفية ونظامها، إلا أنه لم يصغ نكتة، ولم يحمر وجهه أو وجه مرشحه، النائب فيما بعد الياس عطالله. فجنبلاط ها هنا كان مثل غيره من الزعماء الذين يرشّحون عصا وينجّحونها. ومثل عطالله كثيرون.

فإذا كانت حال جبران باسيل الذي يفرضه عمه ميشال عون رئيساً على "التيار الوطني الحر" ووزيراً "أكسترا" رغم رسوبه في الانتخابات النيابيّة، مختلفة نوعاً ما لكونه من طائفة الزعيم، فإن القاعدة المكرّسة من عمر الجمهورية اللبنانية هي أن يخترع الزعماءُ سياسيين ونواباً تابعين لهم من مذاهب أخرى.

قبل الحرب كان الزعماء الموارنة هم أصحاب "الملكيّة الأدبية" في الساحة الإسلاميّة، فيحمل كلٌّ منهم على بساطه، الإنتخابي أو الزعاماتي، نواباً وسياسيين، أحياناً هم مثل أنطوان الأشقر في مناطقهم.. ومذاهبهم التي تقول القوانين الانتخابيّة إنها تحفظ حصصها وتوزّعها بالعدل.

وبعد الحرب إنقلبت المعادلة، فصار الزعماء المسلمون، ولاسيما نبيه بري ورفيق الحريري ووليد جنبلاط، هم من لهم، في الساحة المسيحيّة، سياسيين ونواباً أتباعاً. وقِيل إن هذا سر من أسرار إتفاق الطائف الذي جعل عدداً كبيراً من النواب المسيحيين يُنتخبون بأصوات المسلمين. وبين حين وآخر سمعنا عن سياسين ونواب "ودائع" سوريّة عند هذا الزعيم وذاك: ناصر قنديل عند رفيق الحريري، مثلاً. وعرفنا سياسيين مخترَعين ممثلين لسوريا، مثل قنديل، في حكومات ولوائح انتخابيّة: ميشال سماحة وإيلي الفرزلي وغيرهما. وفي لحظتنا الحاليّة، من دون أن نسمع أو نرى، هناك نواب حازوا بضع مئات من أصوات المقترعين في المناطق والمذاهب التي يقول زعماؤهم إنهم يمثّلونها: بدر ونوس 350 صوتاً من جبل محسن، وخضر حبيب 140 صوتاً من علويي عكار، على سبيل المثال. وهما ضمن كتلة سعد الحريري.

لكنَّ اللعبة لا تنجح دائماً، فهي محكومة بقانون انتخابي. وهذا لا يُصاغ دائماً لمصلحة جميع الزعماء، فتنقص هنا وتزيد هناك. ونبقى نرى السياسيين المخترَعين بجانب زعمائهم وكأنّهم أركانٌ وطنيّون.

نبيه بري الذي حمل النائب ميشال موسى (المقعد الكاثوليكي في صيدا الزهراني) أو قاسم هاشم (المقعد السني في الجنوب)، أخفق في حماية سمير عازار (المقعد الماروني في جزين). ونبيه بري و"حزب الله"، اللذان أوصلا مع حليفهما في دمشق وعنجر، نادر سكّر ثم رئيس "حزب التضامن" إميل رحمة إلى الندوة البرلمانية، محمولَين على أصوات الناخبين الشيعة (المقعد الماروني في بعلبك)، أخفقا في "تحرير" المقعد الشيعي، في زحلة (عقاب صقر) من سعد الحريري و"قوى 14 آذار".

سعد الحريري الذي ناسبه قانون الستين في إيصال عقاب صقر (المقعد الشيعي في زحلة) إلى ساحة النجمة، عجز عن مساعدة مرشّحه في الضاحية الجنوبية (المقعد الشيعي) باسم السبع، ولا يستطيع النقاش في دائرة الجنوب مع نبيه بري و"حزب الله" في خصوص المقعد السنّي. وإذا منح الحريري بسهولة المقعد الماروني في طرابلس إلى الياس عطالله (أو وليد جنبلاط)، إضطر إلى سحب مرشّحه غطاس خوري (المقعد الماروني في الشوف)، نزولاً عند رغبة حليفه "القوات اللبنانيّة".

وليد جنبلاط الذي يحمي دائرته الانتخابيّة وقد استطاع إبعاد "تسونامي" ميشال عون عنها من خلال انتخاب دوري شمعون، لم يستطع تنويب نائبه في رئاسة الحزب دريد ياغي، في بعلبك (المقعد الشيعي)، فيما يضع مرشّحه عن المقعد الدرزي في بيروت "وديعة" في عهدة الحريري.

وبينما يطمئن ميشال عون على فوزه بالمقعد الشيعي في جبيل (عباس هاشم)، لم يستطع الخرق بزياد عبس أو نقولا الصحناوي في بيروت. وبينما تُفتح ثغرة لطلال أرسلان كي يمر عبر الضاحية الجنوبيّة، يعجز "حزب الله" عن إيصال دعم إلى وئام وهاب (الشوف) الذي يبقى صوته أعلى من الأصوات التي يمكن أن تُجيّر إليه.

ولائحة السياسيين المخترعين طويلة طويلة.

هكذا، هو القانون الانتخابي والمعارك التي تسبقه وترافقه، سرقات متبادلة وإختراعات كثيرها وهمي. ورغم ذلك ترتقي هذه "البدع" إلى مصاف العقد الوطنية التي تحكم القانون الانتخابي، وتطيّر قوانين وانتخابات. فإضافة إلى التوريث السياسي، أو في موازاته، ومن دون تجاهل دور المال والسفارات والإستخبارات، هناك في لبنان ونظامه وأعرافه آلة آخرى لاختراع السياسيين. سُمِّيت في ما مضى "عصا الإقطاعي"، والآن هي اختراع أو سرقة، وفي الغالب تشبه نكتة ترشيح أنطوان الأشقر، التي يغض إدوار حنين الطرف عنها، كي تستمر اللعبة.

 

حسان الزين