لن يطلع النهار عليهم بجديد، فكل الأيام بالنسبة اليهم تُشبه بعضها. حكايات الموت أصبحت حديثهم اليومي لا بل “خبزهم” اليومي، فمن خلالها يتقصون أحوال أبنائهم وأحبّتهم خلف الحدود وبها يفردون صفحات ألم ما زال يُلازمهم منذ خمس سنوات. انهم أهل الضاحية الجنوبية الذين أصبح شغلهم الشاغل، مُسايرة الموت وربما الإلتفاف عليه، علّه ينساهم ولو لفترة من الزمن.

الطائفة الشيعية لم تعد بخير ومن يُريد تقصي أوضاعها، ما عليه إلا أن يزور الضاحية الجنوبية ، البقعة الجغرافية التي تضم موزاييك شيعي يجمع بين اهل البقاع والجنوب وجبيل بالإضافة إلى سكّان الضاحية “الأصليين”. في كل شارع و”زاروب” حكاية مختلفة عن الآخر وفي كل بيت دمعة لا تُفارق أهله. ينامون ليلاً على كلام إعلامي يضع “النصر” في أحضانهم ويفرد في قلوبهم مساحات من الأمل تُنبئ بعودة قريبة لفلذات أكبادهم، ولكنّ للصباح حديثا آخر، انه حديث موجع حيث تظهر فيه الصورة على حقيقتها. صورة تفوح منها رائحة الموت ويكثر من حولها حملة النعوش وهم يصرخون ألماً وإنكساراً.

في الضاحية تبدلت الملامح وتغيّرت النفوس، وحدها الدعوات تدب فيهم روح الصمود والأمل، لكن الإنتظار يطول وتطول معه لائحة الأسماء. لا مفر من “واجب” يُحاصر يوميّاتهم ولا من عيون تُراقبهم وتُصنفهم في خانة المُتخاذلين في حال قرّروا فك الحصار عن أنفسهم. الموت يبدو مُريحاً بالنسبة إلى الكثيرين خصوصاً إذا ما قورن مع أصوات الجرحى الذين تعوّدوا على حقن “المورفين” لكتم أوجاعهم. لا يُريد هؤلاء الجرحى التأقلم مع أوضاعهم الجديدة ولا يتقبلون أطرافاً إصطناعية بديلة عن أيديهم وأرجلهم التي فقدوها. صوت والدة أحد هؤلاء العناصر داخل غرفة ولدها في المستشفى وهي تمسح وجهها براحة كفّها، كاف للتعبير عن حجم المُعاناة التي أصابتها. “آخ من سوريا ومن الحرب في سوريا”.

لشبان الزوايا نقاشات جانبية تجري بصوت خافت وكأنه الخوف من أن تصل أحاديثهم إلى مسامع من لا يُحب سماعها ويضعها على الدوام في خانة التصويب على “المقاومة”. يتحدثون عن تبدل الأمور وإنقلاب الأدوار رأساً على عقب. يستعيدون صوراً من حرب تموز وما قبلها. صور في الذاكرة تستجمع الجنود الإسرائيليين وهم يصرخون أثناء فرارهم من المواجهات في القرى الجنوبية، صور ومشاهد كانت رصدتها عدسات مُقاتلين تحوّلوا اليوم إلى هدف دائم وإلى “أبطال” لأفلام مصورة تُبث عبر “الانترنت”، تُظهرهم وهم يفرّون من أرض المعارك في حلب وإدلب ودمشق، ومشاهد لعناصر “حزب الله” وهم يحرقون محاصيل الزرع والحقول في “الزبداني” خوفاً من أن يتحصّن خلفها الثوار.

من البقاع الى الجنوب، تتوافد أخبار الموت إلى الضاحية الجنوبية بشكل يومي عن شبّان في مقتبل العمر يسقطون خارج حدود العقيدة، فيتحوّلون الى “نجوم” موقتين بعد التداول بصورهم من هاتف الى آخر قبل أن ينطفئ وهجهم ويصبحوا مجرّد ذكرى، لتحتل مكانهم بعدها، صور لـ”نجوم آخرين” وكأنهم على موعد دائم مع الغياب، فيسكن وجعهم وألم فراقهم قلوب عائلاتهم وأحبّتهم، وامهات نذرن أعمارهن لقطعة من قلبهن، وإذ بهم يعودون مُحمّلين من بلاد لم تُرسل لعائلاتهم خبراً مفرحاً منذ أن بدأت الدعوات الى حماية الحدود ومن ثم “المقامات”، تحت حجّة “الواجب الجهادي”.

أكثر ما يُدمي القلوب، هو الحديث عن الفتيان الذين يسقطون في سوريا وآخرهم الفتى علي الهادي حسين ابن الستة عشر عاماً. من المؤكد أن هؤلاء الفتيان لم يُجبروا على الذهاب إلى موتهم المحتّم لكن بكل تأكيد أن ثمة من سهّل لهم هذا العبور وأقنعهم أنه الطريق الافضل والأقصر لحياة تنتظر وصولهم بفارغ الصبر، ومن المنطقي القول، إن هذا النهج يتساوى مع دعوات الطرف الآخر، أي “التكفيريين”، عناصرهم إلى “الإستشهاد” بهدف لقاء حوريات العين في الآخرة. والأصعب من هذا المنطق والاعتقادات التي يؤمن بها الطرفان، جملة قالها والد احد العناصر الذين سقطوا لـ”حزب الله” مؤخراً في سوريا لكن جثته لم تكن وصلت بعد “الحمدلله عم بقولوا انو بعد في عشرين جثة شهيد بيوصلوا بين اليوم وبكرا، والشهيد محمد رح يكون بيناتهم”.

الحزن والألم في الضاحية الجنوبية يوحدان الاهالي، وبما أن الجميع هنا مُستهدف، تُصبح المُصيبة واحدة، ومع هذا، يشكر البعض نعمة ربه لأن الموت لم يزر منزله “حتّى اليوم”، ولكن رؤية هذا “الشبح” يُمكن أن يراه الأهالي وهو يقترب منهم من خلال طرق التعليم في مدارس “حزب الله”، ومن خلال العقيدة “الكشفية” التي يُنشئ عليها الجيل الجديد. أما الأخطر في كل ما يجري، فهو أن هناك من يسعى جاهداً لأن يُصبح في كل منزل “شهيد”، كونه باعتقاد هذه الجهة، أن هذا الأمر يُمكن ان يوحد رؤية أهالي الضاحية حول ضرورة مواجهة العدو “التكفيري” الذي يحصد من كل بيت روحاً وربما أكثر.

علي الحسيني