تمهيد:

تتعرض الطائفة الشيعية في لبنان، وربما أكثر من غيرها من الطوائف، إلى سماع خطابات دينية مدمجة بالسياسة وتلاوينها، أو خطابات سياسية ملفعة بالشعارات الدينية.

وقد غطّت هذه الخطابات وسائل الإعلام المتاحة، وشملت المنابر المنصوبة في الحسينيات على مدى أيام الأسبوع، والتي لا يعتليها إلاّ من ارتضت الثنائية الشيعية أن يتكلم باسمها.

أولاً الإعلام...

سيدُ الإعلام هذه الأيام، وما سلف منها، هو السيد حسن نصرالله، أمين عام حزب الله، فاطلالاته التلفزيونية وفيرة ومبرمجة ومعدّة إعداداً جيدا، حيث يحضر الجمهور الذي يحسن الاستماع والهتاف عند منعطفات الخطاب الحادة، المثيرة للغرائز والانفعالات، ويجلس في المقدمة أركان الحزب ، وأركان جبهة المقاومة والممانعة من رجال دين وسياسيين وإعلاميين وأمنيين، والخطاب غالبا ما يكون تحليلا سياسيا، يتبعه إعلان موقف، مصحوبا بالدعوة لشحذ الهمم والعصبية، وما يرافق ذلك من تهجم وسخرية على الأعداء المحليين، ثم الإقليميين، وصولا إلى رأس محور الشر أميركا.

ويتنصّل الخطاب طبعا من كل سمات الخطاب المكتوب،فهو مرتبط بالانفعالية الشفاهية، بطابعها العابر، بنبرات الصوت،وسيولة الكلام، ومواضع التكرار، ممّا يذهب بالسامع للابتعاد عن الفهم والاستيعاب، إلى مضمار ما هو انفعالي وعاطفي وعصبي، وتصاحب الخطاب عادة مُحسّنات شعائرية ثابتة كالحمدلة وذكر النبي وتوالي الصلاة عليه وعلى آله، والدعوة للتُقى والإيمان، والتضحية بالأموال والثمرات والأنفس، وإعلاء قيمة الشهادة والشهداء، والاستشهاد بالآيات القرآنية، وصبّ جام الغضب على المنافقين وأعداء الأمة والدين.

من النادر أن يظهر أحدٌ غير السيد من أقطاب الثنائية الشيعية في إطلالات متلفزة ومعدة ومبرمجة، فرئيس مجلس النواب يظهر مرة أو مرتين خلال عام كامل، وأبرزها خلال الاحتفال بذكرى تغييب الإمام موسى الصدر،وهو احتفال تتكرّر مقولاته، ولا يحمل في طياته أبعادا جديدة، إلاّ أنّ اللافت هو ظهور متكرر ويومي لمجموعة من الإعلاميين والصحفيين والمحللين، الذين تجمعهم منهجية الدفاع عن نهج المقاومة والممانعة، وهم خليط من فلول النظام السوري ، ورجال دين مرتبطين بحزب الله، سُنةً وشيعة، أو إعلاميين، وهم للأسف كُثر، يلعبون دور المدّاحين لأولي النعمة، والشتّامين لخصومهم واعدائهم، ولا تخفى على وجوههم ولا على جنوبهم علامات الارتزاق والمداهنة، ولعلّ السيد وئام وهاب يبقى نجمهم الساطع، ولسانهم الحاد، فيضفي موقعه الدرزي ،والمناصر لسيد المقاومة الشيعي، طابعا خاصا وفريدا لإطلالاته التلفزيونية الوفيرة، وكذلك الأمر مع السيد سالم زهران السني المنحاز للثنائية الشيعية.

هذا في حين لا تتوفر هذه المساحات الإعلامية لمعارضي الثنائية ولا للمستقلين حتى، فيمتلك جمهور الثنائىة ناصية الشارع، وموجات الأثير.

ثانياً: المنابر..

اعتلاء المنابر، والتي بمعظمها منابر حسينية لا يعتليها إلاّ من نال بركة التنظيمات الحزبية، فهي حكر على قرّاء العزاء ورجال الدين، والجمهور يستمع وينفعل ويتأثر ويبكي، وقد يولول، أمّا إذا صعد أحد النواب، الذين لا يحسنون سوى تقديم العزاء، فما على الجمهور سوى هزّ الرأس بالموافقة والاذعان، واعتبار مجرد حضور النائب أو المسؤول، وتفضّله بالكلام، نعمة ساقها الله تعالى لعباده.

للأسف لا تساهم هذه المنابر إلاّ في إشاعة الفكر التقليدي المتحجر، خطابات تفتقد لمعانيها الدلالية، فلا هي مواعظ دينية منزهة عن السياسة لتكمل فائدتها، ولا هي سياسية مسؤولة، لا تتدثّر بدثار الدين والايديولوجيا، أمّا المنابر الأدبية، فهي ورغم ندرتها، تنحو نحو الاهتمام بالشعر والزجل، وهذا مرغوب ومطلوب، لو أنّ مساحة الفكر والتحليل كانت مُصانة، وللأسف، فإنّ بعض هذه المنابر سرعان ما يتم الالتفاف عليها، تمهيدا لتدجينها ووضع اليد عليها، ليقتصر دورها على المدح والتبجيل وعزف ألحان المقاومة والصمود.

يتحكمون بمفاصل الإعلام، والدعاية، والتنظير، ويبذلون في سبيل ذلك الغالي والرخيص، ومع ذلك يخرج من يتعجّب كيف تمتلأ الساحات لسماع خطبهم ، وكيف تتقاطر الجموع لمنحهم الأصوات اللازمة لاعتلاء كراسي البرلمان، ومقاعد المجلس البلدي، أو يتعجب كيف تساقُ الشباب إلى حتفها دون اعتراض،أو احتجاج.

هناك من يرى أنّ محنتنا في السلاح غير الشرعي، ونحن نشعر بنير الأسلحة الأخرى، التي تستعمل على مدار الساعة.