تمهيد:

يعمد بعض قادة الأحزاب، وخاصة أمين عام حزب الله السيد حسن نصرالله للظهور المتكرر على شاشة التلفزيون لتأبين شهيد، أو عرض موقف، أو تحليل وضع سياسي،أو إطلاق موقف حزبي يتعلق بمجريات الأحداث، أو للأسباب المذكورة مجتمعة.

والخطاب ينحو نحو الارتجال الشفهي، وإن كانت بعض العناوين مكتوبة.

أولاً:

الخطابة والبلاغة عند العرب.. تصلح الخطابة كما هو معلوم لشحذ الهمم، واستنفار الأنصار والناس لمعارك مُفترضة أو مندلعة.

وكان بعض الخلفاء والولاة يتبرّمون من خطبة الجمعة ويتهيبونها ، فقد قال عبد ربُّه اليشكري ،وكان عاملا لعيسى بن موسى على المدائن، فصعد المنبر وأُرتج عليه فسكت، ثم قال: والله إنّي لأكون في بيتي فتجيء على لساني ألف كلمة، فإذا قمتُ على أعوادكم هذه جاء الشيطان فمحاها من صدري، ولقد كنت وما في الأيام يومٌ أحبُّ إليّ من يوم الجمعة، فصرتُ وما في الأيام يومٌ ابغضُ إليّ من يوم الجمعة، وما ذلك إلاّ لخطبتكم هذه.

وعدد غير قليل من القادة أُ رتج عليهم، أي عُقلت ألسنتهم على المنابر، ومنهم يزيد بن أبي سفيان والياً لأبي بكر على الشام، خطب فأرتج عليه، فعاد إلى حمد الله ثم أرتج عليه، فقال: يا أهل الشام، عسى الله أن يجعل بعد عُسرٍ يُسرا ، ومن بعد عيٍّ بياناً، وأنتم إلى إمامٍ عادل احوجُ منكم إلى إمام قائل، ثم نزل.

وأرتج على عبد الله بن عامر بالبصرة يوم أضحى، فسكت ساعةً ثم قال: والله لا أجمعُ عليكم عيّاً ولؤماً ،من أخذ شاةً من السوق فهي لهُ وثمنها عليّ.وأرتج على خالد بن عبدالله القسري، وكذلك على معن بن زائدة فضرب المنبر برجله ثم قال: فتى حروبٍ لا فتى منابر.

وكانوا يخافون من فتنة القول ،ومن سقطات الكلام ما لا يخافون من فتنة السكوت ومن سقطات الصمت، وقال أحدهم في زياد بن أبيه، أو بن أبي سفيان: ما رأيت أحداً يتكلّم فيُحسن إلاّ أحببتُ أن يصمت خوفاً من أن يُسىيء إلاّ زياداً فإنّه كلما زاد زاد حُسناً.

وكان عمر بن الخطاب إذا رأى رجلا يُلجلجُ في كلامه قال: خالقُ هذا وخالق عمرو بن العاص واحد.

وتكلم عمرو بن سعيد الأشدق، فقال عبد الملك بن مروان: لقد رجوتُ عثرته لمّا تكلّم، فأحسن حتى خشيت عثرته إن سكت.

ثانياً:

فضل صيغة الكلام الكتابية على الشفهية.. الكلام ،بمعنى النُّطق عند العرب، هو الملكة الرئيسية التي يتبلور الفكر عبرها، ولا عجب أنّهم أفردوا للكلام علما خاصا به، وعدّوا علم الكلام بمنزلة علم أصول الدين في الفضل والمكانة، ولعلّ أول وأهم ما تبلوره صيغة الكلام الكتابية هو ملكة النقد، والتي هي أهم عنصر من عناصر تبلور الفكر وتطوره، فالكتابة تضع مسافة بين المرء وأفعاله اللفظية، فيستطيع بذلك أن يتمعّن في ما يقول بصورة أقرب إلى التجرّد والموضوعية، يستطيع أن يتباعد بعض الشيء عن نتاج فكره، هذه المسافة تمكّنهُ من تنقيح هذا النتاج ومن تصحيحه ، وربما إعادة النظر فيه، أو نسفه أصلا باتجاه استبداله بما هو أرقى وأجمل، ليس من العبث أن تظل كتابات أفلاطون مقروءة كأنّها كتبت بالأمس بعد مرور ألفي عام عليها، فقد ظلّ الرجل ينقح في كتابه"المائدة" حتى آخر حياته،ولا بد من الإشارة أخيرا إلى أن المرء يتعرّض في الكلام الشفهي إلى تضليل نفسه فضلا عن تضليل الآخرين، ناهيك بأنّه أبعد من أن يعي تضليله لذاته ما لم يضع كلامه مكتوبا امام ناظريه، فهذا عالمُ الاناسة كلود ليفي ستراوس يقول بأنّ التناقض والعوج قلّما يقفزان إلى الذهن عند سماع الكلام المتناقض والاعوج، إذ إنّ سيل الكلام الشفهي يجرف انتباه السامع في تيّاره ، ويتلاعب بعاطفته ومشاعره، وهذه كلها آفات تتهذب وتتشذب كثيرا عندما يصير الكلام مكتوبا، فإذا لم يتم التشذيب اشتد.

انكشاف العورة وافتضح الأمر أمام العين البصيرة، فكان النقد والشكّ عدوّا الاعتقادية الدوغماطية.

خاتمة:

لعلّ الدافع لهذا الكلام نيّةٌ حسنة، فالمواقف الانفعالية لسيّدٍ يمتلك ناصية الخطابة، وسلامة اللغة وصعود المنابر، إلاّ أنّ تكرار الخطاب يُنذر بتزايد الأخطاء والعثرات غير المقصودة ، وغير المستحسنة، وهي إذ تزيد في حماسة الأنصار واعتقادهم، إلاّ أنّها غالبا ما يعتورها التناقض والاسترسال العاطفي، وقد تخرج في بعض المزالق عن حدّ المنطق والترفّع والإباء، ككيل المدائح لولّي الأمر، وتوجيه النقد اللاذع لقادة محلّيين، يختلفون في الرأي والمنهج والخط السياسي، أو قادة دول عربية أو اجنبية، ما يُسيء لعلاقة لبنان بهذه الدول والمرجعيات، وهي للأسف ، تضاعف الانقسام الواقع، وتزيد من ركام  الأحقاد المتراكم، ولا يبقى إلاّ الاتزان والتعقل وتحكيم المنطق،هو المرتجى والمأمول.

حتى يقضي الله أمراً كان مفعولا.