أصبح من نافل القول أنّ أحد أبرز عوامل تنامي الأصوليات الإسلامية، هي الهجرة الكثيفة للفئات الفلاحية والهامشية ،والعاطلة عن العمل من الأرياف إلى المدن، وتكدسها في ضواحيها،في أكواخ وأبنية عشوائية،حيث يفتقر المجال السكني والبيئي لمعظم الخدمات التي تتوفر عادة لسكان المدن، وهذا "التكدّس "ترافقه الأمراض الاجتماعية والجسدية، والانحطاط الخُلقي، المصحوب عادة باللصوصية والانتهازية ومخالفة القوانين المعمول بها، هذا في ناحية المدن، أمّا الأرياف المهجورة فتقع تحت ظروف الفقر والخراب.

يذهب لويس ممفورد في كتابه "المدينة عبر التاريخ" أنّ شريعة حمورابي كانت قد وُضعت بناءً على الحاجة إلى معالجة الفوضى التي نجمت عن تدفق البشر على حواضر ما بين النهرين. ويستطيع الباحث أن يرى بيُسر أنّ المتدفقين يكونون عادة مختلفي المشارب والانتماءات الثقافية، إذ يأتون للحاضرة من كل حدب وصوب، يكفي أن نقرأ مثلا في صفحات من خطط المقريزي حول نشأة مدينة كالقاهرة حيث اجتمعت شعوب وقبائل شتى: روم، يهود، أتراك، بربر، ديلم، شركس بالإضافة إلى الأقباط والعرب بالطبع،وهذا ينطبق على نشأة المدن العربية كافة بعد الفتوحات الإسلامية، هذه حال البصرة والكوفة وبغداد ودمشق وغيرها، مدن بنتها فئات مجتمعية صاعدة، بخلاف ما شهده عصرنا "الملقّب بالحديث" حيث تمّ بناء المدن من قبل فئات متدهورة.وهذا ما أفرز أمراضاً خبيثة، ولعلّ أخطرها تنامي الأصوليات المتطرفة والعُنفية.

في هذا المجال يذهب إدوارد هال في كتابه "البُعد المستتر" إلى معالجة مشاكل المدن الأميركية التي عانت هجرات مجموعات عرقية وثقافية تكدّست في بعض المدن كنييوروك وشيكاغو وبوسطن ، وقد عانت هذه الجماعات من مشاكل الاندماج والتواصل والتكيف، وأبرز الصعوبات تركّزت على "التكدّس" السكاني، فيورد حسب تقرير عام ١٩٦٤ مثلا أنّ عدد السود المكدّسين في حي "هارلم" الشهير بلغ ٢٣٠ ألفاً، وذلك على رقعة لا تتجاوز التسعة كلم مربّع، وبالمقارنة مع ضاحية بيروت الجنوبية التي لا تتجاوز مساحتها مساحة حي هارلم، ومع ذلك تجاوز عدد سكانها عام ١٩٧٥ عدد سكان الحي المذكور، وإذا كان هناك من يشكو من اكتظاظ السكان في بلد كالولايات المتحدة الأميركية، التي تحاصرها بيوت التنك والصفيح وتحفل بمستشفيات للمعالجة العقلية ، وسجون وسيارات وبنايات تضئّق الخناق على البشر،فما هي أحوال مدننا العربية والإسلامية؟ وهل تنبّه المختصون إلى ما حصل في طهران قبل الانبعاث الأصولي الشيعي، حيث أخفق التنظيم المدني الذي اعتمدته الرسملة البرّية في توسّع المدينة، ممّا أدّى إلى تدفق الفلاحين عليها بعد فشل "الثورة الخضراء" في الريف الإيراني، ولماذا يتّخذ الأصوليون المصريون "مقابر" القاهرة "مساكن" لهم؟ ولماذا كان تدمير بيروت وطرابلس اللبنانية، أواخر القرن الماضي قد تمّ على أيدي فئات حديثة العهد بالحياة المدنية، ولم تستكمل تكيُّ فها مع شروطها.

استغلّت قيادات الأصولية الإسلامية، تتزعمها رجالات دين، منغمسة بأخس أنماط السياسة، ومدرّبة على أعمال عنف همجية، وثقافة متخلفة ومنحطّة، تبدو ثقافة القرون الوسطى أفضل منها وأرحم، لذا اندفعت الشبيبة الغزيرة والمكدسة في كهوف وسراديب أنظمة القمع والفساد،فإذا بها واقعة بين فكّي كماشة الأنظمة المتهالكة، وتوثُّب الحركات الأصولية، وللأسف،أين المفرّ:، أو ربما لأجل ذلك يفر المهاجرون بعيالهم وأطفالهم، نحو الغرب، نحو غدٍ، لا أنظمة فيه ولا أصوليات.