استضاف «مجلس التعاون الخليجي» الرئيس الأميركي باراك أوباما في قمته الأخيرة المنعقدة في العاصمة السعودية الرياض الأسبوع الماضي، ثم استقبلت الرياض في اليوم التالي الملك المغربي محمد السادس خلال أعمال القمة المغربية ـ الخليجية الأولى. لم تحظ القمة الأخيرة بالاهتمام التحليلي الواجب لأهميتها ودلالاتها، على العكس من قمة أوباما ـ «مجلس التعاون الخليجي»، التي استقطبت اهتمام وسائل الإعلام العربية والدولية؛ بالرغم من أنها لم تضف عملياً شيئاً جديداً إلى ما هو معلوم بالضرورة من فتور بين واشنطن والرياض. قال البيان الختامي عقب لقاء القمة الخليجي ـ المغربي: «جدَّد قادة الدول الخليجية موقفهم المبدئي من أنَّ قضية الصحراء المغربية هي أيضًا قضية دول «مجلس التعاون الخليجي»، مؤكِّدين موقفهم الداعم لمغربية الصحراء ومساندتهم لمبادرة الحكم الذاتي التي تقدم بها المغرب كأساس لأي حل لهذا النزاع الإقليمي المفتعل».
وأعرب القادة الخليجيون عن رفضهم لأي مسٍّ بالمصالح العليا للمغرب إزاء المؤشرات الخطيرة التي شهدها الملف في الأسابيع الأخيرة... واختتم البيان بتأكيد القادة «أهمية استمرار التشاور والتنسيق من أجل دعم ركــائز الشراكة القائمة بين «دول مجلس التعاون الخليـجي» والمملكة المغربية، تحقيقًا لتطلعات شعوبهم وخدمة لمصالح الأمّتين العربية والإسلامية ولتحقيق السلم والأمن الدوليين».
المغرب وتوازن القوى مع الجزائر
بسبب الضغط المتوالي على المغرب في قضية الصحراء الغربية من طرف الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون، الذي اعتبر وجود المغرب هناك «احتلالاً»، فقد ظهر شبح سيناريوهات مزعجة للمغرب، ما يجعل الدعم الخليجي السياسي فائق الأهمية في هذا السياق. ويمثل تعبير «احتلال» الذي استخدمه بان كي مون خلال زيارة لمخيمات للاجئين من سكان الصحراء الغربية أسوأ خلاف بين الأمم المتحدة والمغرب منذ العام 1991 حين توسطت المنظمة الدولية في وقف لإطلاق النار بين الرباط و «جبهة البوليساريو» الانفصالية التي تفضّل إجراء استفتاء على الاستقلال، بينما يتمسك المغرب بالحكم الذاتي كأساس لأي حل سياسي. كما أن انخراط الجزائر ـ بإمكاناتها النفطية الكبيرة ـ في مساندة «جبهة البوليساريو»، تجعل المغرب راغباً بشدة في موازنة الضغط الجزائري عليه بعلاقات متينة مع دول الخليج العربية. ومن المعلوم تاريخياً أن السعودية قامت غير مرة بتمويل مشتريات عسكرية مغربية، لغرض منع موازين القوى العسكرية بين الرباط والجزائر من الانفراط لمصلحة الأخيرة. وبالإضافة إلى ذلك، يحتاج المغرب إلى زيادة الاستثمارات المالية الخليجية (تمثل أقل من 16% من إجمالي الاستثمارات الأجنبية في المغرب)، وكذلك تسهيل حصول المواطنين المغاربة على فرص عمل في الدول الخليجية لمنع تفاقم مشكلة البطالة من ناحية، وللتحويلات المالية المنتظرة منهم من ناحية أخرى. وفقاً للإحصائيات المغربية، بلغ حجم الميزان التجاري بين المغرب ودول «مجلس التعاون الخليجي» حوالي ثلاثة مليارات دولار عام 2014، وهو ما يمثل أقل من خمسة بالمئة فقط من إجمالي التجارة الخارجية للمغرب. وفي العام نفسه بلغت قيمة الهبات والمنح المالية من دول الخليج إلى المغرب نحو أربعة مليارات دولار، أي أن الأساس التجاري لا يصلح للبناء عليه لشراكة استراتيجية، وإنما تدفق الاستثمارات الخليجية إلى المغرب. وكما هو معلوم، فالأخيرة تحتاج إلى توافق سياسي قبل التشريعات الإدارية والمالية المواتية. وإذ خصصت الجغرافيا ركناً قصياً للمغرب في شمالي غرب القارة الأفريقية يبعد به عن مجاورة السعودية جغرافياً، يبدو أن القرب السياسي والعضوية في «نادي الملكيات العربية»، والتشاطر في رؤية مشتركة للتهديدات هو الرافعة الأساسية للعلاقات المغربية ـ الخليجية عموماً والمغربية ـ السعودية خصوصاً، وهو ما دشنته بالفعل القمة الخليجية ـ المغربية الأخيرة. من هذا المنظور يمكن احتساب نتائج إيجابية مؤكدة للمغرب من مشاركته في القمة سياسياً واقتصادياً.
الحسابات السعودية:
تعديل النظام الإقليمي العربي
على الجانب الآخر، تتعدى أهمية القمة الخليجية ـ المغربية من المنظار السعودي مجرد تقديم الدعم السياسي والمالي للحليف التاريخي، لتطاول أهدافاً أبعد تتمثل في الأساس في تعديل التوازنات العربية الراهنة لمصلحة السعودية. تميزت الجغرافيا السياسية العربية في حراكها داخل «الجامعة العربية» بوجود أربعة أقاليم أساسية تعاونت وتنافست وتناحرت في ما بينها، لتنتج التوازنات التي حكمت «النظام الإقليمي العربي» منذ عقود وهي: المغرب العربي ووادي النيل والمشرق العربي والخليج العربي. ضمن الأقاليم الأربعة كان هناك تنافس بنيوي في المشرق العربي بين سوريا والعراق ومثله في المغرب العربي بين المغرب والجزائر، وتنافسات ذات حدة أقل بين الدول في كل من الأقاليم الأربعة. اختصاراً، يمكن القول إنه في الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي كان التوازن الإقليمي العربي قائماً على ثنائية «الجمهوريات العربية» في مواجهة «الملكيات العربية» مواجهةً عابرة للأقاليم الجغرافية المكونة «للنظام الإقليمي العربي»، الأمر الذي ساهم في عدم تسليط الضوء على التناقضات داخل كل إقليم. في عقد السبعينيات من القرن المنصرم، ومع الفورة النفطية وانزياح مركز الثقل في «النظام الإقليمي العربي» نحو الخليج العربي عموماً والسعودية خصوصاً، تبدلت الأوزان السياسية داخل «الجامعة العربية» لمصلحة «الملكيات العربية» خصوصاً مع ميل مصر الواضح إلى ذلك المعسكر. ومع اندلاع الحرب العراقية ـ الإيرانية وتراجع أدوار «الجامعة العربية» والتهديد الذي استشعرته الدول العربية الخليجية، فقد تأسس «مجلس التعاون الخليجي» في العام 1981 كمنظمة إقليمية فرعية تضم دول الخليج العربية الست: السعودية والإمارات والكويت وقطر والبحرين وعمان. بمرور الوقت مال ميزان القوى أكثر فأكثر إلى ذلك التكتل؛ بالتوازي مع تراجع أدوار مصر أكثر فأكثر وتحييد العراق بعد هزيمته في الكويت العام 1991 وضعف سوريا، التي لجأت إلى لعبة التوازن بين الأقاليم والقوى السياسية المختلفة للحفاظ على موقع على طاولة اللاعبين الإقليميين. ومع احتلال العراق عام 2003 انهار ركن من أركان التوازن العربي، ثم انتقلت المبادرة مرحلياً إلى مصر ودول الربيع العربي عند اندلاع الثورات 2010ـ2011، ولكن الربيع سرعان ما أصابته نكسة لأسباب متباينة، لتتقدم السعودية ودول «مجلس التعاون الخليجي» لتطبق عليه وتطوقه فتنتزع المبادرة مرة أخرى. لم يبق واقفاً من دول «النظام الإقليمي العربي» الذي عرفناه في الماضي سوى دول «مجلس التعاون الخليجي» والأردن ومصر المنهكة اقتصادياً وسياسياً والسودان المنقسم جغرافياً، والمغرب والجزائر، فيما تصدعت جمهوريات لعبت أدواراً فيه مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن. في خضم هذا التحول الجيو ـ سياسي الكبير وما تفرع عنه من تبدل وتحول في الأوزان والأدوار داخل «النظام الإقليمي العربي»، تتطلع السعودية إلى إعادة تعريف ذلك النظام ـ أو بالأحرى ما تبقى منه ـ بما يكرس زعامتها له. في هذا السياق تبدو الفرصة مؤاتية للرياض لتعزيز علاقاتها أكثر مع المغرب، نظراً للقدرات الأمنية والمعلوماتية التي تمتلكها الرباط؛ معطوفة على القدرات البشرية والعسكرية له بغرض إسناد السعودية ضمن تحالف إسلامي واسع في مواجهتها مع إيران. وعلاوة على الميزات التي يمتلكها المغرب بذاته، فهناك مواجهته التاريخية مع الجزائر حول الصحراء الغربية، التي تسمح للرياض استطراداً بتحجيم الجزائر ودورها في «النظام الإقليمي العربي» عبر دعم متزايد للمغرب. لم تكن العلاقات الجزائرية ـ السعودية ممتازة في يوم من الأيام، فالجزائر وقفت تقليدياً في معسكر «الجمهوريات العربية» في مواجهة «الملكيات العربية»، وتحالفت دولياً وإقليمياً تحالفاً نقيضاً لتحالفات السعودية. وتجلى ذلك التنافر مؤخراً في الموقف الجزائري من الحرب على اليمن، وحيال الصراع السعودي ـ الإيراني، ومعارضة الجزائر لتصنيف «حزب الله» اللبناني كمنظمة إرهابية، ناهيك عن الموقف المتباين أصلاً بين الجزائر والرياض من الأزمة في سوريا. من هذه الزاوية، تمثل القمة الخليجية ـ المغربية منصة إطلاق جديدة للسعودية في محاولاتها لتعديل ما تبقى من «النظام الإقليمي العربي» لمصلحتها عبر المزيد من الضغط على الجزائر، آخر ما تبقى فعلياً من معسكر «الجمهوريات العربية» المناوئ للسياسات السعودية في المنطقة.