ملأ بوتين الدنيا وشغل الناس بالتأييد والمعارضة، خصوصاً بعد التدخل العسكري الروسي في سوريا، الذي أعاد روسيا إلى معادلات القوة والنفوذ في الشرق الأوسط بعد غياب استمر لعقود. وازداد الاهتمام العربي والعالمي بسياسات روسيا ونياتها بعد إعلان بوتين مؤخراً عن انسحاب جزئي من سوريا، تاركاً العديد من علامات الاستفهام حول الأبعاد والدوافع وحدود الصفقات المحتملة معلقة في الهواء. انهمرت مئات المقالات في الصحافة العربية منذ أيلول الماضي لتأييد أو معارضة التدخل الروسي في سوريا، لكن القليل منها استند إلى خلفية معرفية بتاريخ روسيا وبتوازنات القوى فيها مروراً برؤى المؤسسات الروسية لدور بلادها في عالم متغير، وليس انتهاء بعملية صنع القرار في روسيا المعاصرة. هكذا، يحتدم النقاش حول روسيا وبوتين في عالمنا العربي على أساس الانحيازات في الأزمة السورية؛ وهو أمر يختزل إلى حد التبسيط المخل رؤية روسيا المركبة لدورها في النظام الدولي المعاصر، ومن ضمنه تفاصيل مثل حساباتها في الأزمة السورية وغيرها من الأزمات التي تشكل سوياً موزاييك تلك الرؤية.
يمكن القول إن التدخل العسكري الروسي في سوريا افتتح مرحلة جديدة في تاريخ علاقة روسيا بالمنطقة، مرحلة ليست منقطعة تماماً عن سابقاتها، ولكنها ليست استنساخاً لها بأي حال. وفي كل الأحوال، سيتوجب على التحليل السياسي العربي التعامل مع هذه الحقيقة الروسية الجديدة، بقطع النظر عن تأييدها أو معارضتها. في هذا السياق يأتي كتاب «روسيا الأوراسية: زمن الرئيس فلاديمير بوتين»، والذي ألفه الخبير اللبناني في الشؤون الروسية الدكتور وسيم خليل قلعجية، في وقته تماماً. لا يستمد الكتاب الصادر عن الدار العربية للعلوم في بيروت أهميته من مجرد إلمام المؤلف الواسع باللغة الروسية ما ينعكس في مراجع الكتاب باللغة الروسية، ولا من حجمه الكبير فقط (350 صفحة)، أو حتى من التقديم للكتاب بقلم وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف فحسب، بل أيضاً وقبل ذلك من الجهد الكبير المبذول من المؤلف في الإضاءة على الخلفيات التاريخية والأفكار المؤسسة للسياسة الروسية في زمن فلاديمير بوتين وربطها بما كان وما هو مخطط له.
العودة إلى الصراع الدولي والتوجه نحو آسيا الوسطى
لا يخفي الكاتب تعاطفه الواضح مع بوتين وزمنه وتجربته في كل ثنايا الكتاب، مقارنة بنفور أوضح من بوريس يلتسين وإشفاق غير متعاطف على ميخائيل غورباتشوف، ومفتتحاً الكتاب في فصله الأول المعنون «روسيا الاتحادية في عالم ما بعد الاتحاد السوفياتي» بالأجواء التي سادت في روسيا إبان انهيار الاتحاد السوفياتي السابق وأدوار غورباتشوف ويلتسين في تلك المعية.
ويستعرض الفصل الثاني المعنون «عودة روسيا إلى ساحة الصراع الدولي»، أداء وأفكار الرئيس الروسي فلاديمير بوتين عبر ترجمة كاملة لخطابين ألقاهما بوتين يعتبرهما المؤلف مفصليين في فهم منطلقات بوتين الفكرية والسياسية: الأول أمام «مؤتمر ميونيخ للسياسات الأمنية» العام 2007، والثاني في الساحة الحمراء في موسكو في العام ذاته بمناسبة الذكرى الثانية والستين للانتصار على النازية.
ويتناول الفصل الثالث المعنون «التوجه الروسي نحو آسيا الوسطى.. تكريس التحول نحو أوراسيا» الأهمية الاستراتيجية الفائقة لمنطقة آسيا الوسطى سواء لروسيا أو القوى الدولية المنافسة على حد سواء. ويسلط الكتاب الضوء على الأدوات التي اعتمدتها روسيا للعودة إلى تلك المنطقة المهمة، التي انكفأت عنها في السنوات التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفياتي السابق، والتي يجتمع فيها كل شيء على حد وصف الكتاب: ميراث التاريخ ووعود المستقبل والثورات الشعبية وحركات التمرد القومية والحركات الإسلامية المسلحة، وبالطبع... النفط والغاز.

العقيدة العسكرية الجديدة
يفتتح الفصل الرابع الذي عنونه الكاتب «العقيدة العسكرية الجديدة.. تطوير السياسات الدفاعية لروسيا الاتحادية» بمأثورة بالغة الدلالة للقيصر الروسي ألكسندر الثالث يقول فيها: «ليس لروسيا ما تعتمد عليه سوى حليفين.. جيشها وأسطولها». تمثل العقيدة العسكرية منظومة المفاهيم المتبناة رسمياً في دولة ما، التي تشكل مجموع الترتيبات الموجهة لضمان الأمن ومنع الحروب والنزاعات المسلحة، وهي في العمق إعلان حول سياسة الدولة في مجال الدفاع أمام مواطني الدولة المعنية والعالم. يشرح المؤلف الوثيقة التي أصدرها بوتين عن العقيدة العسكرية الروسية العام 2014، بعدما أورد نصها الحرفي وقارن بينها وبين ثلاث من سابقاتها صدرت أيام بوريس يلتسين وأخرى أيام ولاية بوتين الثانية، فضلاً عن العقيدة العسكرية الثالثة التي صدرت زمن الرئيس السابق ديمتري ميدفيديف. ويعتبر الفصل الرابع توثيقياً في الإجمال لنص العقيدة العسكرية الروسية 2014، وهو ما يمثل مرجعاً للمهتمين بالشأنين العسكري والاستراتيجي الروسي.
يتناول الفصل الخامس المعنون «الأوراسية مقابل الأطلسية» موضوعاً جيوسياسياً بامتياز، مفاده تأثير الجغرافيا على الأمن القومي الروسي بلغة سهلة ومبسطة من دون استعمال مفردات علم الجغرافيا السياسية مباشرة، ربما رغبة من المؤلف في تبسيط الموضوع لغير الملمين به بالضرورة. في ثنايا ذلك الفصل يشرح المؤلف أهمية أوكرانيا لروسيا في سياق الجغرافيا السياسية، ضمن نقاط أخرى ذات أهمية لروسيا الأوراسية. هنا يبدو تعاطف المؤلف مع فكرة روسيا الأوراسية التي عنون بها كتابه، وليس «الأطلسية» التي تعني بلا مواربة لدى المؤلف انحداراً لمكانة روسيا وذيليتها لأميركا، وهو الأمر الذي انبنت شعبية فلاديمير بوتين داخل وخارج روسيا على معارضته الشديدة. في انحياز فكري واضح لبوتين وغير راغب في ادّعاء الحيادية يشرح المؤلف محاولات الرئيس الروسي رسم ملامح النظام العالمي الجديد بالتكتلات الإقليمية والتحالفات الدولية، لموازنة تأثير الولايات المتحدة الأميركية في العالم. وفي هذا الإطار، يقدم المؤلف تأريخاً لقمم «مجموعة صداقة الدول المستقلة» التي تضم روسيا ودول أخرى كانت منضوية في الاتحاد السوفياتي السابق، خلال السنوات الخمس عشرة الأخيرة، الأمر الذي يهم منطقياً الباحثين في الشؤون الروسية خصوصاً والدولية بشكل عام. كما قدم المؤلف في الفصل ذاته تأريخاً مماثلاً لـ «منظمة شنغهاي» وأهدافها ومقرراتها، وفعل الشيء ذاته لمجموعة «دول البريكس» التي تضم روسيا والصين والهند والبرازيل وجنوب أفريقيا.

الحرب ضد روسيا الأوراسية
يستهل الفصل السابع من الكتاب والمعنون «الحرب ضد روسيا الأوراسية» أعماله بمقولة للاستراتيجي الأميركي الأشهر زبغينو بريجينسكي ومفادها: «من دون أوكرانيا لا تشكل روسيا الاتحادية إمبراطورية روسية»، واضعاً الصراع على أوكرانيا بين روسيا والغرب في سياق الصراع الكوكبي المؤسس على الجغرافيا السياسية، ومحللاً تسلسل الأحداث الصراعية في أوكرانيا وعليها انطلاقاً من هذه الخلفية. ويدافع المؤلف في هذا الفصل أيضاً عن «شرعية انضمام القرم إلى روسيا الاتحادية»، ملقياً الضوء من ذلك المنظور على تسلسل الأحداث الصراعية التي شغلت العالم وقتذاك. ويناقش هذا الفصل أيضاً بنود اتفاقية تسوية أزمة أوكرانيا مستشرفاً مستقبل الصراع فيها.
في الفصل الأخير من الكتاب يتناول المؤلف موضوع الساعة، أي أبعاد التدخل العسكري في سوريا وآفاق التسوية السياسية التي يلمّح فيها المؤلف إلى أن «الرحيل المؤجل» للرئيس السوري في إطار عملية تسوية سياسية تنهي الحرب في سوريا هو الاحتمال الأكثر ترجيحاً حتى من روسيا بوتين ذاتها.
وبرغم الميل الواضح للمؤلف عاطفياً إلى «زمن الرئيس فلاديمير بوتين» الذي عنون به الكتاب، يعد الكتاب مرجعاً لا يستغنى عنه لكل الباحثين والمهتمين بالشؤون الروسية على اختلاف انحيازاتهم السياسية وميولهم العاطفية مع أو ضد، لما فيه من وثائق ونصوص وتأريخ وربط للقضايا التي قد تبدو متنافرة بخيط جيو- سياسي واحد. يسلط المؤلف الضوء من خلال الكتاب على نظرة موسكو لنفسها وأدوارها في جوارها القريب والعالم، ابتداءً من نقطة الكتاب الصفرية أي انهيار الاتحاد السوفياتي التي يقدمها في قالب لغوي درامي حزين ـ وهي كذلك بالفعل - وصولاً إلى خاتمة الكتاب أي التدخل العسكري الروسي في سوريا التي يقدمها المؤلف في قالب تحليلي شديد التفاؤل والعنفوان. إنه كتاب جدير بالقراءة بالفعل.

] «روسيا الأوراسية ـ زمن الرئيس فلاديمير بوتين»، وسيم قلعجية، «الدار العربية للعلوم ـ ناشرون»، بيروت 2016.