مَن يُوقف هذا الانتحار السياسي الجماعي.. وهذا النحر المتعمّد للدولة ومؤسساتها الدستورية؟

واقع الانهيار المتمادي للدولة والنظام والمؤسسات، لم يعد يتحمّل انتظار انتهاء الحرب في اليمن، أو الاتفاق على الحل السياسي في سوريا، ولا حتى الخروج من المماطلة الأميركية والغربية المعيبة لفرض حل الدولتين في فلسطين، وإنهاء الصراع العربي - الإسرائيلي.

لم يعد ممكناً التطنيش على المسار المتصدّع للدولة اللبنانية، والسكوت على هذه الطبقة السياسية العاجزة، بحجة أن الأولويات الإقليمية والدولية تركز في هذه المرحلة على البلدان المشتعلة في المنطقة، من اليمن إلى سوريا والعراق، وصولاً إلى ليبيا.

لم يعد خافياً على أحد، أن لبنان، الدولة والأمن والاقتصاد، وصل إلى شفير الهاوية، ولا يفصله عن السقوط المريع سوى مقاومة اللبنانيين، على اختلاف طوائفهم وأحزابهم، الرافضين لتقاعس قياداتهم، والمتمسكين بأسنانهم، بما تبقى لهم من أمن هش، واقتصاد مُهدّد، واستقرار متصدّع، على أمل أن يتمكنوا من تجاوز هذه المرحلة الصعبة بأقل قدر ممكن من الخسائر، وتجنب السقوط في مهاوي الانهيار المخيف!

* * *

الواقع أن ما يشهده اللبنانيون يومياً من مظاهر التفكّك والانهيار في بنية الدولة وترابط المؤسسات، لم يروا مثيلاً له حتى في ذروة الانقسام الطائفي الذي شطر السلطة بين حكومتين وجيشين ورئيسين للسلطة التنفيذية.

ورغم الظروف السوداء لتلك المرحلة المعقدة من الحرب، والتي سادت مع تسلم العماد عون رئاسة الحكومة العسكرية في خريف عام 1988، بقيت آليات الدولة تعمل في حدود تأمين الخدمات الأساسية والضرورية، فلم يتأخر صرف رواتب الموظفين، وخاصة العسكريين، رغم انشطار القوات المسلحة بين قيادتين، كما حصل مؤخراً عندما تأخرت وزارة المالية في صرف رواتب العسكريين.

تمّ اختراع «المرسوم الجوّال» لتمرير القرارات المهمة، وعدم تعطيل إدارة الدولة والمرافق العامة، حيث كان المرسوم يتنقل بين مقر رئيس الحكومة في بيروت، وقصر الرئاسة في بعبدا أو بكفيا، ليتم التوقيع عليه حسب الأصول القانونية، وتأمين تصريف شؤون البلاد والعباد.

بينما نرى اليوم أن سياسة التعطيل هي شعار هذه المرحلة الصعبة، رغم إدراك الأطراف السياسية المعطلة مخاطر هذه الممارسات على النظام، وعلى الأمن والاقتصاد.

مجلس الوزراء لا يجتمع لأسابيع طويلة، تحت ضغوط التعطيل والابتزاز، وعندما يجتمع لا يتمكن من اتخاذ القرارات اللازمة، أو الأزمات المتفاقمة، وأزمة النفايات تبقى المثل والمثال، وذلك بسبب سياسات العناد والكيدية، المدعومة بأساليب التفرّد والهيمنة، على طريقة التيار العوني: إما أن تأخذوا بشروطنا ومطالبنا، أو لا قرارات ولا من يقررون في مجلس الوزراء!!

وجاءت الأزمة المستجدة مع المملكة العربية السعودية، ودول مجلس التعاون الخليجي، لتكشف هشاشة الوضع السياسي اللبناني، وارتباكه في تطويق الأزمة مع أكبر دولة عربية، والأكثر دعماً ومساندة للبنان في مختلف أزماته ومحنه، وذلك بسبب هذا التصدّع المتزايد في القرار الرسمي، نتيجة الصراعات الداخلية، وامتداداتها الخارجية.

* * *

وإذا كانت الخلافات على الخيارات السياسية الرئيسية، من الاستحقاق الرئاسي إلى قانون الانتخابات العتيدة، تبقى مبرّرة إلى حدّ ما بسبب هذا الانقسام العامودي بين 8 و14 آذار، فإن ما حصل في ديوان التفتيش المركزي يبقى من الأمور المستعصية على الفهم والتبرير!

اقتحام مكاتب أعلى مؤسسة رقابية بمثل هذه السهولة، العبث بالملفات المهمة بمثل هذه الخفة، ثم، ولعل هنا الطامة الكبرى، هذا السجال العلني والفاضح بين رئيس هيئة التفتيش وأحد أعضاء الهيئة، والإثنان ينتميان إلى سلك القضاء، بكل ما يعنيه من حكمة ورصانة، بعيداً عن السجالات والمهاترات.

المشكلة أن ما حصل في هيئة التفتيش المركزي، يمكن أن يتكرر مثله، أو أكثر، في أية مؤسسة أو إدارة رسمية أخرى، في ظل هذا التلاشي المريع لهيبة الدولة، ومع السقوط المستفحل لدولة القانون وغياب قواعد المحاسبة، بسبب اعتماد أساليب المحسوبية والاستزلام للمرجعيات السياسية، التي تفرض حماياتها على أزلامها ومريديها في الإدارات العامة!

* * *

مَن يوقف هذا الانتحار الجماعي.. والنحر المتعمّد للدولة؟

كان السياسيون اللبنانيون يعتمدون، حتى الأمس القريب، على التدخلات والرعايات الخارجية لجمعهم على طاولة وفاق، تكون نصوصه قد كتبت في عاصمة إقليمية أو دولية!!

اليوم، الكل مشغول بأجندته القُطرية، وحروبه الإقليمية، ولا وقت للتفكير بالوضع اللبناني المتعثر، ولا بتحمّل ترف سياسييه ودلعهم وأنانياتهم!

الكرة، إذاً، في ملعب القيادات السياسية اللبنانية:

إما أن تكون قادرة على إيجاد الحلول القادرة على إخراج البلاد والعباد من دوامة الأزمات التي تُهدّد الغد والمصير.. وإما أن تعلن أفلاسها وعجزها عن مواجهة التحديات، سواء عبر طاولة الحوار، أو من خلال مجلس النواب، بعدما استعصت الحلول في مجلس الوزراء!

عند ذاك، تكون ساعة الحقيقة قد دقّت، ويكون البلد قد وقع في المحظور!