الخطاب الشعبوي، التصعيدي، الاستكباري، الذي يُطل به الوزير جبران باسيل على جمهوره، يُشكّل استفزازاً صارخاً لأكثرية اللبنانيين، مسيحيين ومسلمين، لأنه يتجاوز ثوابت الوفاق الوطني، وتوازنات المعادلة السياسية الداخلية، ويضرب عرض متطلبات الحفاظ على الانسجام الحكومي، والاستقرار السياسي، لتمكين البلد الخروج من دوّامة الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الراهنة.
لعل إشكالية الخطاب الباسيلي الأولى أن صاحبه مأخوذ بفكرة «الحزب الحاكم»، وشعارات القوة المتعددة الأشكال والألوان، من العهد القوي إلى الحزب القوي، وإلى التكتل النيابي القوي، وأضاف عليها أمس مصطلح «الأقوى»، وكأن الأمور في بلد مثل لبنان تؤخذ بالقوة، وكأن التسلح بمنطق القوة يُساعد على معالجة المشاكل المستعصية، لا على تعقيدها، كما أثبتت التجارب المريرة التي دفع اللبنانيون أثمانها الباهظة، شهداءً ودماءً، وخراباً ودماراً.
أما الإشكالية الأخرى التي تكشف انحراف الخطاب الباسيلي عن الثوابت الوطنية، فتكمن في محاولاته المستمرة إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، إلى ما قبل اتفاق الطائف، بهدف فرض الهيمنة الكاملة على مجلس الوزراء وتحويل رئيسه إلى شاهد زور، أو «باش كاتب»، كما كان يُقال في حكومات قبل الدستور الحالي.
أن يكون للتيار الوطني الحر أكبر كتلة في مجلس النواب، وأن يكون له العدد الأكبر من الوزراء، مع ممثلي رئيس الجمهورية طبعاً، فذلك لا يعطيه حق التفرّد في إدارة شؤون الدولة، والسيطرة على دفة الحكم، وإطلاق التهديدات الجوفاء بفرط عقد الحكومة عبر سحب «ثلثه المعطل»، كلما حصل تباين أو خلاف في وجهات النظر مع رئيس الحكومة.
أما الإشكالية الثالثة التي تطوّق مواقف الوزير باسيل، فتبدو واضحة في إصراره على تجاهل التغيير الجذري الذي طرأ على سياسة الرئيس الحريري بعد الانتخابات النيابية، والتي تختلف كلياً على ما كان عليه الوضع في السنتين قبل الانتخابات، حيث قدّم رئيس تيار المستقبل كل التنازلات والتضحيات اللازمة لإنجاح التسوية الرئاسية، رغم معارضة جمهوره الواسع لهذه التسوية وما تلاها. فماذا كانت النتيجة؟ ربح الشريك الأول في التسوية، أي التيار الوطني الحر، كل مكاسب التسوية وتنازلات «المستقبل»، ولم يلاقِ شريكه في منتصف الطريق، وإعطائه ما يستحق مقابل تضحياته وتنازلاته. فكانت النتيجة أن قطف باسيل نتائج الأرباح المتراكمة في الانتخابات النيابية، واحتلت كتلته البرلمانية المرتبة الأولى عددياً، في حين خسر الحريري نصف كتلته النيابية السابقة، والتي كانت الأكبر في المجلس السابق، فضلاً عن المعارك الانتخابية التي خاضها شريك التسوية ضدّه، وتحالفه مع خصومه السياسيين في العديد من الدوائر، إلى جانب تقليص الوجود المسيحي في كتلة «المستقبل» النيابية!
لا ندري مدى جدّية وزير الخارجية في تهديداته الحكومية، لأنها ينطبق عليها المثل الشعبي المعروف بالذي أراد أن يقتل ذبابة على خده، فجاءت ضربته قوية أدّت إلى كسر فكّه، وشوّهت نطقه!
الواقع إن طرح استقالة الحكومات في لبنان لا تتم بمثل هذه السهولة، وما تنطوي عليه من استخفاف، وذلك في ظل غياب الحد الأدنى من التوافق السياسي. إن إسقاط الحكومة على طريقة التهديدات الباسيلية، يعني خروج سعد الحريري من السراي، وإقفال الأبواب خلفه، لأنه لن يتجرّأ أحد على قبول تكليف مشوّه على حساب نسف مبادئ الطائف، وكما حصل فراغ في الرئاسة الأولى سنتين ونصف السنة حتى تمّ انتخاب العماد عون رئيساً للجمهورية، فليكن ثمّة فراغ مُشابه في الرئاسة الثالثة، حتى تعود الأمور الدستورية إلى مسارها الصحيح، وليتحمّل كل طرف، حسب مسؤوليته، وزر ما ستؤول إليه أوضاع البلاد والعباد.
أما القول إن التمثيل السنّي لم يعد محصوراً بتيار الحريري، فهذا صحيح، ولكن متى كان التمثيل المسيحي محصوراً بالتيار الوطني الحر عندما كان العماد عون رئيسه، وطالب بحقه في الوصول إلى الرئاسة الأولى؟
علمتنا التجارب المريرة أن الأزمات السياسية في لبنان غالباً ما تنشأ نتيجة خلافات بين أهل الحكم، ولكن عندما تتمّ معالجتها بالحوار والتفهّم والتفاهم، والتنازلات المتبادلة، ليلتقي الجميع في منتصف الطريق، على طريقة لا غالب ولا مغلوب، يخرج البلد من الأزمة بأقل قدر من الخسائر، ولكن عندما تسود لغة التحدّي والاستفزاز تخرب العلاقات بين أهل الحكم، ويسقط الاستقرار، ويدخل البلد في متاهات أزمة وطنية، قد نعرف كيف دخلنا فيها، ولكن لا أحد يعرف كيف يمكن أن نخرج منها!
فهل المطلوب تحويل الأزمة السياسية الراهنة إلى أزمة وطنية مُستفحلة؟