يبدو أن «عاصفة الحزم» التي أطلقتها القيادة السعودية لدرء الأخطار القادمة إليها من اليمن، لم تكن مجرّد اسم اصطلاحي لعملية عسكرية، محدودة الأهداف والمكان، بقدر ما كانت عنواناً لسياسة المواجهة التي قررت السعودية اعتمادها، بعد سنوات من الصبر والتروّي، وبعد محاولات عديدة لترجيح الخيار السياسي، وتجربة كل الأساليب الدبلوماسية، لمعالجة الأزمات المتفجرة مع النظام الإيراني وحلفائه المحليين!

الأزمة الراهنة في العلاقات اللبنانية - السعودية، ليست مجرّد ردّة فعل سعودية غاضبة على تخاذل الموقف اللبناني الرسمي، وخروجه عن الإجماع العربي، بل هي ردّ سعودي حازم على تمدد النفوذ الإيراني في لبنان من خلال هيمنة «حزب الله» على مفاصل القرار السياسي والرسمي في لبنان، من خلال سطوة السلاح، والإمكانيات الهائلة التي وضعتها طهران بتصرّفه منذ ثلاثة عقود من الزمن.

ومما ضاعف الغضب السعودي من الموقف اللبناني الرسمي، هذا التراخي المتزايد من جانب أطراف وقوى 14 آذار في التصدّي لمواقف وهيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة، الأمر الذي أدى إلى هذا العجز الفاضح في تصحيح موقف وزير الخارجية جبران باسيل الخارج عن الإجماع العربي، في اجتماعي جامعة الدول العربية ومنظمة التعاون الإسلامي.

وثمة من يدّعي أن مراجعة السعودية ودول مجلس التعاون الخليجي لعلاقاتها وسياساتها مع لبنان، قد وصلت إلى استنتاجات على جانب كبير من الخطورة، بعضها يعتبر أن لبنان وقع فعلاً في أسر الهيمنة الإيرانية التي تحاول إخراجه من الصف العربي، الأمر الذي يتطلب إعادة النظر بكل اتفاقيات وبرامج المساعدات العسكرية والإنمائية، حتى لا يستفيد الفريق المهيمن من إمكانياتها، ويتم توظيفها في السياسات المؤيدة لإيران، والمعادية للمواقف العربية بشكل عام، وللخيارات السعودية والخليجية بشكل خاص!

ويبدو أن المراجعة الشاملة للعلاقات الخليجية مع لبنان، لن تقتصر على الجانب الرسمي، بل ستشمل الحلفاء في فريق 14 آذار، الذين انصرفوا عن متابعة معركة الاستقلال والسيادة إلى خوض معاركهم الشخصية والفئوية، ما أدى إلى هذا الوهن الذي تعاني منه حركة 14 آذار، والذي من نتائجه السوريالية تبني أكبر مكوّنين فيها لمرَشحَين من 8 آذار، يعلنان جهاراً ونهاراً التزامهما بكل بنود التحالف مع «حزب الله»، ومن ورائه السياسة الإيرانية في المنطقة!

ولكن ليس من الصعب على قوى 14 آذار استعادة المبادرة من جديد، من خلال العمل على لملمة الصفوف، وإجراء تقييم صريح، ونقد ذاتي لأخطاء المرحلة الماضية، والإسراع في تصحيح المسار السيادي والاستقلالي، ولو أدى ذلك إلى إعادة النظر ببعض القرارات أو الخيارات التي لجأوا إليها مؤخراً.

وفي حال عدم نجاح جهود التعويم لحركة 14 آذار، أو انصراف القيادات الرئيسية فيها عن هذه المحاولات، فان الفرصة ستكون متاحة لبروز قوى وتيّارات سياسية، من مختلف الطوائف، ومن كل المناطق، تكون أكثر تصميماً على خوض المواجهة السياسية دفاعاً عن عروبة لبنان وانتمائه القومي.

يعتبر الخليجيون أن الفتنة المذهبية هي سلاح طهران لتفجير المجتمعات العربية، وإغراق بلدان الإقليم في فوضى النزاعات المسلحة بين السنّة والشيعة، من خلال شحن الشارع بالشعارات المذهبية، وتأجيج التوتر بين أبناء الدين الواحد، في حين تتصدى دول المنطقة لهذه المخططات بتعزيز اللحمة بين المسلمين، ومحاربة تيارات التطرّف بكل أشكالها.

ويستشهد أصحاب هذا الرأي، بالانخراط الجدي للسعودية والدول الخليجية في التحالف الدولي ضد «داعش» والمنظمات التكفيرية، فضلاً عن الحملات الأمنية المستمرة ضد العناصر المتطرفة داخل دول مجلس التعاون، وضد كل من تثبت علاقته بالقاعدة وفروعها المختلفة.

ويُعيد هؤلاء إلى الذاكرة الدور الإنقاذي والمشهود الذي قامت به الدول الخليجية في إبعاد لبنان عن السقوط في هاوية الحرب المذهبية، بعد أحداث 7 أيار الأسود في بيروت، وتنظيم انعقاد مؤتمر الدوحة الذي جمع كل الفرقاء السياسيين اللبنانيين، وانتهى بإخراج البلد من الأزمة الخطيرة التي كان يتخبط فيها اثر انتهاء حرب تموز 2006، وذلك عبر التوافق على انتخاب العماد ميشال سليمان رئيساً للجمهورية، وإنهاء الشغور الرئاسي، فضلاً عن الاتفاق على قانون الانتخابات النيابية، وتركيبه الحكومة التي ستجري الانتخابات.

غير أن كل هذه الوقائع وتلك الاعتبارات، بما فيها هيمنة «حزب الله» على مفاصل الدولة، قد تُسبّب الزعل السعودي والخليجي من الشقيق الصغير، ولكنها لا تبرّر، ولا يمكن أن تبرّر، الانكفاء السعودي أو الخليجي من لبنان، سواء عبر تخفيض التمثيل الدبلوماسي، أو سحب الاستثمارات، أو حتى تجميد الدعم والمساعدات، لأن مثل هذه الخطوات ستؤدي إلى مناخات وفرص أكثر ملاءمة للتمدّد الإيراني، مما سينشأ عنه حتماً إضعاف قدرات القوى السيادية اللبنانية المعارضة للهيمنة الإيرانية.

هذا ما حصل في فلسطين عندما ابتعد العرب عن حماس، وهو ما حصل في العراق عندما ترك العرب مصير بلاد الرافدين بين أيدي الحاكم الأميركي بريمر.

وما يجري في سوريا يبقى هو الدرس الأقسى والمثال الأصرخ!