وسَّع الدكتور سمير جعجع كثيراً هامش حركته السياسية. وهو، بتبنّي ترشيح العماد ميشال عون، أقام جسراً سيزداد متانة على الأرجح بينه وبين خصومه الأقوياء، ولاسيما «حزب الله». فهل ستنفتح أمامه الطريق لمبادرة جديدة هي الأشدّ حساسية وأكثر عمقاً؟ في الساعات الأخيرة، بعد انتهاء المشهدية الاحتفالية في معراب، وجَّه العديد من أركان «القوات اللبنانية» رسائل سريعة «مشفَّرة»، في شكل ومضات، إلى «حزب الله». فالنائب ستريدا جعجع وجَّهت إليه الدعوة لكي يلاقي «القوات» حول العناوين العشرة الواردة في بيان جعجع.

وبعد ذلك، أوضح النائب شانت جنجنيان عبر تلفزيون «أو تي في» أنْ لا مانع من صياغة ورقة نيّات بين «القوات» و«حزب الله» على غرار الورقة القائمة بينها وبين «التيار الوطني الحر».

إذاً، واضح أنّ ثماراً عديدة تطمح «القوات» إلى إنضاجها وقطافها نتيجة المبادرة مع عون. وربما ينفتح الباب على مصراعيه لـ«القوات» في اتجاهات كانت تُعتبر قبل اليوم موصدة. فعملية خلط الأوراق التي ينخرط فيها كلّ الأطراف في «14 و8 آذار» باتت معدومة الضوابط تقريباً.
ويُدرك كثيرون، ومنهم جعجع، أنّ اللاعب الأكبر في الملف الرئاسي هو «حزب الله».

وتالياً، يعرف جعجع أنّ قراره تبنّي ترشيح عون سيُضطر «الحزب» إلى إيضاح موقفه وموقعه بدقَّةٍ في اللعبة الرئاسية، وتالياً سيُتاح لجعجع وعون وسائر المعنيين بالملف أن يُحدّدوا مواقعهم وهوامش المناورة السياسية.

قبل أن يُطلق جعجع مبادرته، كان هو المحشور لأنه أمام استحقاق تسوية يعمل لتعطيلها. ولكنه اليوم بات مقتنعاً بأنّ كرة النار انتقلت إلى أيدي الخصوم، ولاسيما المسيحيين منهم، وبات على كلٍّ منهم أن يقذفها في اتجاه آخر والتخلص منها.

أما «حزب الله» فليس ملزماً اتخاذ أيّ مبادرة جديدة. ودعم جعجع لعون لا يغيِّر شيئاً في المعطيات. وسيبقى يطالب بالتوافق على مرشح لكي يدعمه «الحزب»، وبتفاهم عون وفرنجية على حَسم ترشيح أحدهما لكي يحظى بالدعم، إلّا، فالأولوية لعون.

ولأنّ فرنجية ماضٍ في المعركة، فهذا يعني وجود مرشحين اثنين، يعجز أيٌّ منهما عن توفير النصاب الكافي لانتخابه. وهكذا، سيبقى الاستحقاق معلَّقاً، بفارق أنّ المتنافسين أصبحا كلاهما من فريق «8 آذار».

ولا يحسم الاختيار بين المتنافسين من داخل الخط سوى إيران. وهي لن تفعل إذا لم تنضج التسوية، أيْ إذا لم تقبض الثمن المناسب في الملفات الشرق أوسطية الساخنة.

وعلى الأرجح، سيؤدّي تشبّث فرنجية وعون إلى إضاعة فرصتيهما معاً، ما يُعيد خيار الرئيس «التوافقي» من خارج دائرة الأربعة... ولكن حتى هذه التسوية تستلزم اقتناع القوى الإقليمية بأنّ الوقت قد حان لها، خصوصاً أنّ الملف الرئاسي في لبنان لا يندرج في أولويات أحد.

وفي هذه المعمعة الداخلية، يُمسك «حزب الله» بالملف جيداً، وهو سيديره بكثير من الدقّة، وسيطلب من الجميع أن يعالجوا مشكلاتهم وألّا يلقوها عليه.

وكذلك، سيقوم الرئيس نبيه برّي بدوره الدستوري، أيْ الدعوة إلى جلسات انتخاب، لئلّا يتحمّل أيّ مسؤولية عن التعطيل، فيما ستكون مواقف القوى الأخرى على المحك، كالرئيس سعد الحريري والكتائب، وطبعاً فرنجية.

وسيلتزم برّي البقاء خارج اللعبة، منعاً للإحراج مع حليف الحليف، وفي يده سلاح قوي هو الميثاقية. وسيقول للمطالبين بجلسة لانتخاب عون: لضرورات الميثاقية لن ننتخب رئيساً يدعمه الشيعة والمسيحيون وحدهم، ويرفضه السنّة وتيار «المستقبل». وقد أعطى برّي إشاراتٍ إلى التزامه الميثاقية في العديد من النماذج.

إذاً، الشيك الذي حرَّره الدكتور جعجع لعون، والذي يخوِّله الصعود إلى بعبدا، ستكون هناك صعوبات كثيرة تعوق صرفه. وفي المقابل، سيتقاضى جعجع الثمن السياسي لقاءَ مبادرته. فهو سيفتح من خلال عون اتصالاً مع قوى «8 آذار».

ويقول سياسي ظريف: إنّ اتفاق جعجع مع عون يُشبه، من حيث فوائده لمعراب، ما حقّقته إيران في اتفاقها مع الأميركيين. وفي عبارة كاريكاتورية، سيدخل جعجع «أسواقاً جديدة» داخل «8 آذار»، وقد لا يكون «حزب الله» بعيداً عن المجال الذي ستدخله معراب.

ويسأل بعض المتابعين: هل ما زال مستحيلاً عقد لقاء على مستوى رفيع بين «القوات» و«حزب الله»، فيما العلاقات ودّية بين نواب الطرفين في ساحة النجمة؟ وقد كان واضحاً أنّ البنود العشرة لبيان ترشيح عون في معراب لم تمسّ «الحزب» مباشرة، لعدم إحراج الضيوف مع حلفائهم.

وفي استطاعة عون أن يكون صلة الوصل بين الطرفين. وفي أيّ حال، لم يكن عون أقلّ خصومة من جعجع مع «حزب الله» قبل انخراطه في مسار المفاوضات التي أوصلت إلى «ورقة التفاهم» قبل عشر سنوات.

ويتجنّب القواتيون الدخول في تكهنات حول مستقبل العلاقات مع «حزب الله» بعد الانفتاح على عون، ويفضّلون الاكتفاء بعبارات حذرة ولكن انفتاحية. لكنّ بعض المطلعين يعتقدون أنّ جعجع قطَع مسافة، بمعنى التكتيك السياسي، لمحاورة «الحزب».

ويقول البعض: في الزمن المليء بالمفاجآت، حيث يصبح فرنجية مرشح الحريري، وعون مرشح جعجع، هل يكون مستحيلاً ترتيب اتصالات ولقاءات بين «القوات» و«الحزب»، قد تنتهي بلقاء قمة يَجمع جعجع والسيد حسن نصرالله.

والحوار بين الطرفين قد لا يتجاوز التفاهم على كسر الجليد في العلاقات، والتفاهم على مسلَّمات وخطوط عريضة. ولكن، أليس «التيار» نفسه بقيَ يُصرّ في بدايات عهده مع «ورقة التفاهم» على أنه ليس متحالفاً مع «الحزب» بل إنه «متفاهم معه» فقط على نقاط معيّنة، وأنّ الإختلاف مستمرّ على أخرى؟

وإذا تفاقمت الأزمة داخل «14 آذار»، فسيزداد رجحان فرضية الحوار بين جعجع و«الحزب». ولدى بعض المسيحيين إقتناع بأنّ من مصلحة جعجع أن يفتح حواراً مع الطرف القوي في «8 آذار»، وأن يفاوضه مباشرة، ويقبض الأثمان، بدلاً من الاعتماد على مَن يفاوض عنه بالوكالة.

ويقول هؤلاء: ما دام الحريري يفاوض «8 آذار» من باب المقايضة بين رئاسة الجمهورية لـ«8 آذار» ورئاسة الحكومة لـ«المستقبل»، فلماذا لا يذهب المسيحيون بأنفسهم أيضاً إلى الأقوياء في «8 آذار» ويفاوضونهم مباشرة على هذا الملف المسيحي بامتياز؟

في الفترة الأخيرة، وفي ذروة السجال السياسي حول المبادرة الرئاسية، نُقل عن جعجع قوله: «نيّال الجنرال بحليفه «حزب الله»! الوفيّ له إلى هذه الدرجة.

وهذه العبارة قيلت عفوياً ربما، أو ردّة فعل على الوضع داخل «14 آذار»، لكنها تحمل الكثير من المضامين. فجعجع حسَد «الجنرال» على حليفه الشيعي ومدى صلابته في التمسك بتحالفاته. فإلى أيّ حدٍّ سيذهب جعجع في التعبير عن إعجابه بوفاء «حزب الله» لحلفائه؟

الذين لهم خبرة في الطريقة التي يختار فيها جعجع خطواته السياسية يراهنون: الأبواب مفتوحة لمفاجآت أخرى. وقد يكون بينها الدخول في مرحلة انفتاح بين «القوات» و«حزب الله».

ويقول هؤلاء: لا شيء يمنع عقد قمة أخرى، تاريخية، بين جعجع ونصرالله. فقمة كهذه يحتاجها الطرفان، وفيها يمكن الرهان على أمور «الحلّ والربط»، بدل انتظار الأطباق الجاهزة سلفاً!