في اليوم التالي للعمل الإرهابي الذي استهدف القلب التاريخي السياحي من اسطنبول الأسبوع الماضي، نقلت وكالات الأنباء تصريحاً لرئيس الوزراء التركي أحمد داوود أوغلو تضمّن وصفا لتنظيم "داعش" يمكن اعتباره، أي هذا الوصف، إحدى الكلمات - المفاتيح للحقبة السياسية التي تمر فيها منطقة الشرق الأوسط منذ أقام هذا التنظيم "دولة الخلافة الإسلامية" في سوريا والعراق وعاصمتها مدينة الرقة.

قال أحمد داوود أوغلو بالحرف: "صلة المهاجم بداعش تحدّدت ولكن داعش هي منظمة وسيطة".
ماذا!؟
"منظّمة وسيطة"؟
ستار، غطاء، أداة... سمِّها ما شئت من مرادفات الدور "الوسيط". فمَنْ أكثر من القيادة التركية الحالية يستطيع أن يعرف الطبيعة "الوسيطيّة" لـ"داعش" عندما تكون ستاراً لجهات أو دول أخرى تقف وراءها؟
هل هي زلة لسان من السيد داوود أوغلو في لحظة غضب أم رسالة وضْعِ حَدٍّ للوظيفة "الوسيطيّة" لهذا التنظيم بعدما أخذت تستخدمها جهات أو دول أخرى متضاربة المصالح والأهداف في الصراع الحالي في سوريا والعراق مع المصالح والأهداف التركية؟ فالقيادة التركية متّهَمة كما هو معروف بأنها هي استخدمت طويلا هذا التنظيم بل المتهمة بأنها ساهمت بشكل أساسي في رعاية نشوئه. فهل هي تكشف الورقة الآن بعدما بدأ استخدام "داعش" ضدها؟ أو هي تضغط عبر ورقة خطرة جدا، ورقة اتهام دول أو جهات؟
الصحافة التركية والغربية أجمعت على تفسير هذا التصريح بأنه تلميحٌ بل توجيه مباشر إلى وجود قوة أخرى تقف وراء تفجير اسطنبول. لكن ما يعنينا هنا يتجاوز هذا التلميح أو التوجيه من حيث أنه يصدر عن القوة الأساسية المتهمة سابقا بمحاولة توظيف "داعش" لصالح أهدافها الجيوسياسية.
لتأكيد أهمية هذا التصريح بذاته نعود إلى أحداث 11 أيلول الإرهابية في الولايات المتحدة الأميركية عام 2011. إذ رغم كل نظريات المؤامرة التي ازدهرت في تلك الفترة في العالم كله حول تفجيرات 11 أيلول ووجود دول معادية لأميركا وراءها، لم يصدر تصريح واحد لمسؤول أميركي كبير أو صغير يومها يتهم أي دولة أو منظمة غير منظمة "القاعدة"( ذات الصلة طبعا بمنظمة طالبان في أفغانستان).
أخيرا إِذَنْ يعلن رئيس وزراءتركيا عن كون داعش ستارا لجهات أخرى. كأنه يقول بعد أن أصبحت تركيا نفسها ضحية لهذا النوع من الاستخدام لـ "داعش" ضدها كـ"وسيط" لآخرين... كأنّ داوود أوغلو يقول: نحن الذين نعرف أن "داعش" هي ستار لجهات أخرى لأننا نحن الذين بدأنا استخدامها بهذه الطريقة. وغيرُنا اليوم يستخدمها ضدنا.
أدهشني كمراقب صدور هذا التصريح عن رئيس الوزراء أو "باشْ باكانْ" باللغة التركية. فقد كان بإمكانه أن يلمِّح مباشرة إلى وجود جهات أو دول وراء التفجير أو يتّهم "داعش" وحدها ولكن أن يجزم بأن طبيعة وظيفة "داعش" هي أداة لآخرين فهو بذلك، من حيث انتبه أو لم ينتبه، أراد أو لم يُرِد، يفتح على مستوى آخر. إذْ يمكن اعتبار كلامه بأنه اعترافٌ حتى في لحظة مأساوية ومؤذية جدا لتركيا ولسياسات الرئيس رجب طيِّب أردوغان ولـ "حزب العدالة والتنمية". فأكبر إرث من التشكيك بعلاقة ملتبسة مع "داعش" كان من نصيب القيادة التركية الحالية... عالميا وشرق أوسطيّاً وتركيّاً.
طبعا من الحماقة اتهام تركيا بإيذاء نفسها في هذا الإرهاب الأخير. ولكن وفي ظل انتشار عمليات "داعش" فإن تقدما نوعيا في معرفتنا عن "داعش" حصل بفضل تصريح أحمد داوود أوغلو هو الجزم بأنها لا توجد بذاتها وإنما هي عميلة لسياسات متلطّية وراءها.
وتأسيساً على ذلك... هل بات يمكن القول "رسميا" بعد تصريح السيد داوود أوغلو: ليس هناك من الآن فصاعداً "داعش" واحدة بل "داعشات"؟
... كذلك بفضل السيد داوود أوغلو بات بالإمكان صياغة هذه الجملة العبثية: تقدُّمٌ نوعيٌّ في جهلنا أيضا بـ "داعش".