لا شكّ في أنّ التحالف التركي - السعودي في سوريا خسِر بمقتل قائد "جيش الإسلام" زهران علّوش مع جزء كبير من أعضاء مجلس قيادته، ورقةً سياسية وعسكرية مهمّة في سوريا. فعلّوش الوثيق الصِّلة بالرياض التي لا تزال حتى الآن تُقدّم ضيافةً دائمة إلى والده المعمّم، أصبح في العامين الأخيرين نقطة تقاطعٍ متقدّمة بين السعودية وتركيا في صراعهما مع النظام السوري على معادلة موقع أمن العاصمة دمشق داخل مجمَل حرب الجبهات المفتوحة في سوريا.عندما شاعَ بدايات العام الماضي الحديث عن سيناريو غزوة دمشق، انطلاقاً من ريفها الشرقي المسيطر عليه "جيش الإسلام"، ومن ثغور أخرى مسانِدة مثل منطقة جوبر التي تبعد مسافة 500 متر عن ساحة العباسين، ومخيّم اليرموك قبل أن تحتلّه "داعش" وهو ملاصِق لأحياء دمشق الجنوبية، كان علّوش مرشّحاً لقيادة "جيش الفتح" الدمشقي، وكانت مهمّته أن يُكرّر في مناطق العاصمة ما فعَله تحالف "جيش الفتح" في إدلب. وأكثر من ذلك، رشّحَ إقليميون علوش لتؤمّن الميليشيا التابعة له الأمن الداخلي لدمشق في حال نجَحت المعارضة في السيطرة عليها.

 

وبدا واضحاً خلال الفترة الأخيرة أنّ هناك توجّهاً إقليمياً لتلميع صورة علوش السياسية والعسكرية، فتمّ تسليط الضوء عليه كرأسِ حربة عسكرية بديلة لـ"جبهة النصرة" في دمشق وريفِها، خصوصاً بعدما ظهرَت صعوبة اعتراف الغرب بـ"النصرة" كتنظيمٍ ليس إرهابياً، وتمّ تسويقه أيضاً كنموذج لنوعٍ من المعارضة السورية التي يشكو الغرب من أنّها نادرة الوجود في سوريا، والمقصود بها المعارضة التي تملك «خطاباً معتدلاً» أو أقلّه غير تكفيري؛ وفي الوقت نفسه تقود حيثية عسكرية وشعبية داخل سوريا، ولا يقتصر وجودها على إقامة قادتِها في فنادق العواصم الإقليمية.

3 انطباعات

لقد طبِعت ملامح صورة علوش منذ العام 2011 حتى الآن بانطباعات أساسية عدة عنه، اتّسمَت بأنّها كانت تتحوّل في فترة من حالٍ إلى حال:

الانطباع الأوّل عنه تكوَّنَ من رحم حقيقة أنّه أحد رموز المعارضات الإسلامية التي أفرَج عنها النظام السوري بعد صدورِ العفو الرئاسي مع بدء نشوب الأزمة السورية.

وقادت هذه الواقعة إلى تصنيفه بأنّه جزء من المعارضين الإسلاميين المتشدّدين الذين تَقصَّد النظام الإفراجَ عنهم لكي يُعسكر المعارضة السلمية وينزع عنها سِمة أنّها معارضة سِلمية شعبية إصلاحية لمصلحة أنّها معارضة مسلّحة تريد بناءَ إمارات إسلامية في مناطقها.

إرتكبَ علوش بعد بسط سيطرته على ريف دمشق الشرقي انطلاقاً من مدينته دوما (كبرى مدن الغوطة الشرقية) أفعالاً خدمَت فكرة تصويره أحياناً بأنّه "معارض مندسّ" وأحياناً أنّه "معارض تكفيري".

لحقَ به الانطباع الثاني خصوصاً عندما أنشَأ سجون "أهل الذمّة"، وهي عبارة عن مبانٍ تنتشر في قرى وبلدات عدة من منطقة سيطرتِه، وضعَ فيها مواطنين من "طوائف غير سنّية" واستخدمهم دروعاً بشَرية لثنيِ النظام عن مهاجمة مناطقه. أمّا صفته كـ"معارض مندسّ"، فطاوَلته نظراً لأنّه كان يقصف دمشق فقط عندما يتأخّر فيها تجّارها الكبار عن تحويل الأموال إليه بعِلمٍ من الأجهزة الأمنية السوريّة الرسمية.

ضمن هذه الصورة الآنفة، بدا علوش طوال تلك الفترة أنّه معادلة قابلة للحياة في زمن اضطراب ريف دمشق؛ فهي من جهة لا تُشعِر النظام بخطر جدّي، ومن جهة ثانية تُشعِر الرياض بأنّ لها حليفاً على أبواب العاصمة قد تستخدِمه في الوقت المناسب، وثالثاً شكّلَ لتركيا التي تعرّفَت إليه لاحقاً نقطة تقاطع ميدانية بينها وبين السعودية.

والواقع أنّه طوال العامين السابقين على بدء عاصفة "السوخوي"، كانت استراتيجية النظام تقوم على إحاطة العاصمة بإشعاع حماية من التكتيكات السياسية في مناطق ريفها اللصيق، وذلك بوصفِها أسلوباً لا يتوافر غيرُه لجعلها آمنةً بالحدّ الأدنى، خصوصاً بعدما تَعذّرَت إحاطتُها بإشعاع عسكري آمن.

ولذلك اتّجَه النظام لإنشاء منطقة المصالحات مع قوى المعارضة العسكرية الموجودة في ريف دمشق الجنوبي، ضمن شروط سخية للمعارضين فيها، بينها موافقته على الاحتفاظ بأسلحتهم واستمرار سيطرتهم على مناطقهم، وكل ذلك لقاء هدنة وعدم اعتداء.

وفي غوطة دمشق الشرقية حيث معقل علوش، أنشَأ النظام معه "شيئاً من هدنة وأقلّ من مصالحة"، حيث اتّبع حيال التعامل معه معادلة "العصا والجزرة" لاحتوائه، ففي حين تمّ غضّ الطرف عن تمويل شهريّ يُرسِله إليه تجّار دمشقيّون لقاءَ التزامه عدمَ قصف العاصمة، كانت تُوجَّه ضربات جوّية ضد مناطقه يكون منسوبُ قسوتِها على مقدار سوء تصرّفاته.

بين دوما والتلّ

 

الانطباع الثاني عن علّوش داخل المعارضة السورية، وخصوصاً الإسلامية منها، تكوّنَ عنه مع بدء "حزب الله" حروبَه في سوريا، بدءاً من القُصير والقلمون فالزبداني. وفي كلّ هذه المعارك كان هناك اسمٌ له محلّ الرمز فيها وهو ابو مالك التلّي أمير "جبهة النصرة" فوق ميدان يتَّسم بأنّه يقع على الحدود اللبنانية - السورية.

ويؤخَذ على علوش أنّه لم يفتح ولو لمرّة واحدة جبهتَه في الغوطة الشرقية لتخفيف ضغط هجمات "حزب الله" والجيش السوري على مناطق أبي مالك التلّي، على رغم أنّ خسارة الأخير للقلمون كانت تشكّل في الوقت نفسه خسارةً استراتيجية لعلوش الذي طالما اعتمد على مناطق أبو مالك القلمونية للحصول على إمدادات لمنطقته المحاصرة في ريف دمشق الشرقي.

داخل أجواء المعارضة الإسلامية السورية، يردّون تصرّفَ علوش إلى أنّه تعبير عن خلاف قديم بين بلدتَي دوما والتل، وقد وصَل للأخير بالوراثة. فبَين بلدة التل القريبة من حمص ولكنّها إداريّاً تُعتبر من ريف دمشق، وبلدة دوما القريبة من دمشق وتقع ضمن محافظتها، هناك صراع على المكانة الاجتماعية.

فأهل دوما وعلّوش من أبنائها ينظرون إلى أهل التل على أنّهم ريفيّون، فيما أهل التل يأخذون على دوما الريفية أصلاً تشاوفَها غير المبرّر. يعود هذا التباين الاجتماعي بين البلدتين إلى زمن سابق لاستقلال سوريا، حيث كان جزءٌ من تعبيرات ردود فِعل مجتمع أرياف دمشق على رغبة عاصمتهم ببقاء جدارنها الاجتماعية السبعة المحيطة بها، مهابة الجانب اجتماعياً.

وفي وقت كان يصعب فيه على أهل أرياف دمشق مقارعة عائلات عاصمتهم، فإنّهم اتّجَهوا ليمارسوا فوقيّةً تجاه بعضِهم البعض، وذلك انطلاقاً من سعي البلدات الأقرب إلى دمشق لإرساء تقليد يَعتبر أنّها الأجدر بالاحترام الاجتماعي من البلدات الأبعد عن العاصمة.

ومن أبرز نتائج الحرب السورية أنّها أعادت إحياءَ هذا النوع من الصراع الاجتماعي في سوريا، بعدما كانت دولة حزب البعث شديدة المركزية، ساهمت في كبتِه وقمعِه منذ أربعينات القرن الماضي لغاية العام 2011.

أراد علّوش جعلَ دوما عاصمةَ ريف دمشق قاطبة. لذلك ولأسبابٍ اجتماعية، كان يَشعر بارتياح ضمني وهو يرى صورةَ أبو مالك التلي العسكرية تتآكل تباعاً على أيدي "حزب الله".

يضاف إلى ذلك تضارُب الأصول العقائدية بين علوش وأبو مالك؛ فالأوّل يتحدّر بالنَسب من سلالة مشايخ الإخوان المسلمين الكبار الذين بينهم والدُه، والذين تربطهم مع الرياض علاقة منذ عقدِ الثمانينات الماضي، فيما التلّي وعلى رغم أنّه عاش في السعودية لفترة طويلة وتعرّفَ إلى أجواء سَلفية فيها، لكنّ إقامتَه هناك جرَت تحت عنوان أنّه عامل.

ولمَعت نجوميتُه الجهادية من منبع آخر تَمثّلَ في جيل "صحوة إسلامية جهادية" مستجدّة نشأت في سوريا، مع بروز أبو مصعب الزرقاوي الأردني في العراق خلال بدايات هذا القرن، وتضخّمت مع ابو بكر البغدادي امير "الدولة الاسلامية"، ثم انشقَّت عن الاخير تحت مسمّى "جبهة النصرة" في سوريا بقيادة السوري أبو محمد الجولاني.

عاصفة "السوخوي"

 

الانطباع الثالث عن علّوش تَشكّلَ أخيراً مع بدء عاصفة "السوخوي" الروسية في سوريا. في هذه المرحلة حاولَ علوش نقلَ تطبيقات معادلة "شيء من الهدنة مع النظام" إلى علاقته الميدانية مع فاعليات قيادة الجوّ الروسية.

وتقول أوساط في المعارضة السورية إنّ الروس وافَقوا مبدئياً على عدمِ التعرّض لمناطق علّوش مقابل التزام الأخير السكينة العسكرية. ومع هذا التبدّل في قواعد الاشتباك المحسوب بين دوما ودمشق، شعَر تجّار العاصمة ومِن ورائهم النظام، أنّ رأسمال القوّة العسكرية الروسية بات كافياً لقمعِ علّوش عن قصفِ دمشق، وما عادوا يحتاجون لرشوتِه مِن مالهم لكفّ شرّ قذائفه عن أحيائهم.

حاولَ علّوش كَسر هذا الانطباع لدى دمشق بأنّها تستطيع النومَ بأمان على وسادة فائض القوّة الروسية، فقَصَف السفارة الروسية في العاصمة، ما أدّى إلى مقتل عدد من حرّاسها السوريين. كرّر علّوش ذلك مرّتين، وكان هذا كافياً لانهيار هدنته مع عاصفة "السوخوي"، خصوصاً أنّ الروس قرأوا في قصف سفارتهم رسالةً إليهم من الخارج عبر علّوش.

تزامنَ ذلك مع إسقاط الطائرة الروسية في سيناء، ثمّ لاحقاً إسقاط طائرة روسية حربية على الحدود مع تركيا. موسكو وضَعت كلّ هذه الأحداث في سلّة واحدة ورأت فيها رسالةً مضمونُها أنّ عاصفة "السوخوي" حتى ولو قاتلَت من الجوّ فإنّ هذا لن يَحول دون تكبُّد روسيا كلفةً بشرية نتيجة تدخّلِها العسكري في سوريا.

وعلى رغم أنّ موسكو لم تتبَنَّ قصفَ مقر علّوش وقتلَه مع أعضاء في قيادته، إلّا أنّ "جيش الإسلام" يؤشّر إليها بالمسؤولية عن الحادث. وتقول روايتهم إنّ علّوش اتّخَذ في الآونة الاخيرة أقصى الاحتياطات الأمنية لحماية نفسه؛ حيث انقطعَ عن استعمال الهاتف الخَلوي، وباتت تنقّلاته محسوبة للغاية، وكان يُدرك أنّ مرحلة بدءِ التسوية السورية العتيدة مطالعَ العام الجديد سيَسبقها تصفيات لرموز القوى السياسية في سوريا على ضفّتي المعارضة المعتدلة والمتطرّفة.

ورأى بأمّ عينيه أيضاً مسلسلَ التصفيات المكثّف الذي حصل في مخيّم اليرموك لرموز "جبهة النصرة" وفصائل إسلامية أخرى وذلك على وقع بدء تنفيذ تسوية إخراج "داعش" منه.

وكلّ هذا جَعله يحتاط، ولكنّه ربّما - بحسب مقرّب منه - أخطاً خلال اجتماعه الأخير مع أعضاء قيادته لمناقشة شؤون على علاقة بنتائج لقاء المعارضة في الرياض وموقف "جيش الإسلام" من مجمل المسار الدولي للتسوية، وذلك عندما استعملَ هاتفاً خَلوياً لمحادثة مسؤول في دولة عربية وعرضَ قضيّةً عليه كانت مُثارةً في الاجتماع. بعد دقائق من ذلك وصَل الصاروخ الروسي إلى قاعة اجتماع قيادة "جيش الإسلام"، ليرسمَ بالنار رؤية موسكو للوفد الذي يجب أن يفاوض النظام السوري باسم المعارضة السورية.

(الجمهورية)