مرّت "التوافقية" المعتمَدة كفلسفةٍ للنظام اللبناني منذ استقلال كيانه بخمس مراحل.   المرحلة الأولى، بين العامين 1943 و1957، كانت حقبتها النموذجية، إذ شهدت انسجاماً نسبياً بين نخب سياسية قوامُها وُجهاء أريافٍ ومدن متوسطة وكبرى، ورجال حقوق وأعمال ومصارف.   واستفاد لبنان اقتصادياً خلالها من تحوّلِ أنشطة مرفأ حيفا الى مرفأ بيروت، كما استفاد من الانقلابات العسكرية العربية وعمليات التأميم التي دفعت ببعض أموال البرجوازيّات العربية الى مصارفه. لكن ذلك أدّى أيضاً الى اتّساع الهوّة الاقتصادية الاجتماعية بين اللبنانيين وتركّز الثروات في بيروت وجبل لبنان.   ومع صعود الناصرية في المنطقة، ثم إعلانها الوحدة مع سوريا العام 1958، شهد لبنان أولى أزماته الكبرى. فرئيس الجمهورية كميل شمعون ومعه قسم من المسؤولين وجمهورهم أرادوا الانضمام الى "حلف بغداد" المعادي للناصرية وللشيوعيين. في المقابل، كان الهوى الناصري أساسياً في أدبيات ومواقف قسم ثانٍ من المسؤولين وجمهورهم، واصطدم الطرفان على أرضية الصراع حول الخيارات الإقليمية، ومعها بداية الخلاف حول الحصص السياسية الواجب توزيعها بين الطوائف داخلياً. ولم يحسم صدامهما الذي ألهب الشارع سوى الاتفاق بين الرئيسين المصري والأميركي، ثم اتفاق معظم أعيان النظام اللبنانيين على قائد الجيش فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية وعلى حكومة رباعية هدفها العودة الى التوافق وتجنّب الصدامات.     بهذا، استُهلّت المرحلة الثانية واستمرّت حتى العام 1969، وعَرفت محاولاتٍ إصلاحية جدّية في الإدارة والاقتصاد، وعرفت كذلك سياسات اجتماعية ومؤسّساتية هدفت الى تطوير دور الدولة واستحداث مؤسسات جديدة وتنمية المناطق الطرفية.    إلّا أنها عرفت في الوقت عينه صعوداً لمكوّن مخابراتي مؤثّر في صنع السياسات، وشهدت بدء التوتّر السياسي-الطائفي على قاعدتين: قاعدة مطالبة الساسة المسلمين بتوسيع دورهم وتعديل حصص التمثيل في المؤسسات، وقاعدة العلاقة بالقضية الفلسطينية وبالسلاح الفلسطيني واستخدامه انطلاقاً من الجنوب اللبناني. وأضعف التوتّر المتصاعد التوافقيةَ وأدّى الى أكثر من أزمة، لكن معظم النخب السياسية ظلّت حريصة على البقاء ضمن شروط التسووية لتجنّب القطيعة.     تبعت تلك المرحلة الغنية بالتطوّرات مرحلةٌ ثالثة، بين العامين 1970 و1974، شكّلت التمهيد للحرب الأهلية. وميّز تلك المرحلة سلوكان متشدّدان، مناقضان للتوافقية: سلوك اليمين المسيحي الرافض القبول بإصلاحات والمتمسّك بصيغة بدت لا تقوى على مواجهة التبدّلات الاجتماعية والديموغرافية في البلد، وسلوك اليسار وبعض القوى المسلمة المعتبر تغيير النظام بالقوة استناداً الى التحالف مع منظّمة التحرير الفلسطينية مُباحاً وممكناً.      وكل ذلك أدّى، مع مجموعة عوامل اقتصادية داخلية وسياسية خارجية، الى انفجار الحرب الأهلية العام 1975 وما استتبعها من اجتياحات سورية وإسرائيلية وتدخّلات خارجية سياسية وعسكرية كثيرة.     المرحلة الرابعة انطلقت ببطء بعد اتفاق الطائف العام 1989، وشهدت تكريساً للطائفية والمذهبية مع إعادة توزيع للحصص بين ممثّلي الطوائف، وللصلاحيات بين الرئاستين الأولى والثالثة.    كما شهدت عمليّتين أفرغتاها من الكثير من مضامينها. عملية تحكّم بالنظام وقراراته من خارج مؤسساته، أي من القيادة السورية المهيمنة، وعمليّات خصخصة لمهام الدولة الرئيسية بين كتل طائفية، مع فارق أن الوظيفة المسيحية (السيادية) كانت من خارج المؤسسات على عكس الوظيفتين السنية (الإعمار) والشيعية (مقاومة إسرائيل). وأدّى الأمر الى تحوّل التوافقية الى توزّع مناصب ومهام دون القدرة على صناعة مشتركة للقرارات التي صادرها النظام السوري.     ومع اندحار الأخير عن لبنان العام 2005، بدأت المرحلة الخامسة المبنية على جملة أعطاب موروثة ثم على مجموعة مقايضات مؤقّتة ما لبثت أن انفجرت.    فالخيارات الخارجية المتنابذة، والأدوار المحلية المتحوّلة الى التصادم، والاغتيالات السياسية وسلاح حزب الله الساعي الى فرض المعادلات أو تعطيل ما لا يناسبه، وانعدام المرونة في الصيغة التوافقية وما تُمليه من شروط نِصاب واتّخاذ قرارات، وقوانين الانتخاب المكرِّسة حصريةَ تمثيل طائفي في أكثر من منطقة، أدّت الى تعاظم الأزمات وتعطيل مؤسّسات الدولة وتعبئة الشارع بما يجعل كلّ توافق شديد الصعوبة إن لم نقل مستحيلاً.      ولم تنفع مع تفاقم المشاكل دورياً سوى المساعي والضغوط الخارجية لحلّها مؤقتّاً.    وحين اندلعت الثورات العربية وتحوّلت الثورة السورية الى حرب طاحنة، تراجع الاهتمام الدولي بلبنان في ما عدا منعَ انفجار العنف فيه، وتُركت القوى السياسية الحاكمة لتسيير أمورها وانتخاباتها، فانتهى أمرها الى فراغ رئاسي مديد ومجلس نيابي مجدِّد لنفسه، وحكومة عاجزة عن رفع النفايات.   ماذا نستخلص من كل ذلك؟   - أنّ التوافقية في لبنان تتعرّض كل فترة لانتكاسة كبرى لا تتعافى لاحقاً تماماً منها. وهي مع ذلك تُبقي نظامها عصيّاً على الإصلاح الجدّي وقادراً على الاستمرار بشكل جديد، ولو أعرج.     - وأنّ القوى السياسية الرئيسية، وكلٌ منها يملك لأسبابٍ عدّة مشروعيةً شعبية طائفية وعرّابين إقليميين أو دوليّين، تريد للنظام التوافقي الاستمرار طالما أنها تملك القدرة على تعطيله متى احتاجت ذلك.     - وأنّ المراحل التي شهدت استقراراً نسبياً للتجربة التوافقية كانت تلك التي لم تعرف أحادية تمثيل للطوائف أو شبه أحادية، ولم تكن القوى السياسية فيها كفاحيةً يرتبط تمويلها بالخارج بقدر ما كانت تقليدية في بحثها عن تسويات تحفظ على الدوام مصالحها ضمن المجتمع نفسه.     وكلّ هذا يعني أننا أمام معادلة – معضلة مفادها أن النظام التوافقي اليوم عليلٌ كفايةً ليتعذّر معه الحُكم المستقرّ وتتعذّر استمراريّة عمل المؤسسات. لكنه غير مهدّد بوجود قوى سياسية كبرى تدعمه لرغبتها في المحافظة على ما تُتيحه آلياته غير المرنة من إمكانية تعطيلٍ لقدرات خصومها على فرض خياراتهم. وهذا على الأرجح ما يُطيل عمره منذ عقود ويحوّله سجناً يصعب الخروج من بين جدرانه...