تكاثرت في السنوات الأخيرة في الإعلام الغربي ظاهرة "المختصّين بسوريا" أو "الخبراء في شؤون الحركات الجهادية" أو "اختصاصيّي الجماعات الإسلامية السورية". وقسم كبير من هؤلاء هم مزيج من ضحالةٍ وادّعاءٍ وقدرة على استسهال طرح الأمور وإصدار الإحكام دون خوف أو تردّد.


كما أنهم في معظمهم لا يتقنون العربية وقد لا تكون لهم إقامات طويلة في المنطقة العربية أو حتى زيارات لها، هذا إضافة الى جهلهم المُطبق بأدبيّاتها وثقافاتها وبالإسلام وتاريخه والصراعات فيه وعليه.


وتُجاور ظاهرة هؤلاء الاختصاصيّين المزيّفين ظاهرةٌ أخرى. ظاهرة غربيّين من أصول عربية، أو عرب يكتبون بلغة غربية، يقدّمون بداهات أو يخترعون بطولات قوامها تقريع العرب والمسلمين وادّعاء شجاعة نقدٍ ذاتي، هو أقرب الى البلاهة منه الى النقد، والنفاق فيه لكسب رضى محاوريهم ومشاهديهم أو قرّائهم قميء وسفيه.

 

ويصعب فصل الظاهرتَين عن بعضهما، وعن كونهما على ارتباط بجوّ يزداد حضوره في الإعلام الغربي وفي الخطاب السياسي في أكثر من عاصمة غربية: جوّ الإسلاموفوبيا، أو "رهاب الإسلام" الذي تمتزج فيه غريزة عداء للإسلام عامةً، بخوفٍ من صعود الحركات الإسلامية، بعنصريةٍ ضد اللاجئين وضد المهاجرين أو المتحدّرين منهم، برعبٍ مشروعٍ من "الإرهاب" ومن التفجيرات والإشاعات حولها.

 

كما يصعب فصل كل ذلك عن بعض تجلّيات الاستشراق الذي أفاض إدوارد سعيد في الحديث عنه، ولَو أنه بالغ واختار لإثبات مقولاته أهدافاً "سهلة" نسبياً واستبعد أُخرى لا تنطبق عليها أحكامه (وهذا شأنٌ آخر).

 

وتجليّات الاستشراق المقصودة هنا هي تلك التي تنحو منحاً ثقافوياً أو ماهوياً تجاه الشرق العربي (وأحياناً تجاه البلدان ذات الأكثريّات المسلمة قاطبةً)، يُوزّع التعميمات والأحكام ولا يرى في التحليل الاقتصادي أو الاجتماعي أو تحليل البنى السياسية أو مراقبة التاريخ وحقباته وتبدّلات الأحوال فيها أي فائدة. فما يصحّ في السودان بالنسبة إليه يصحّ في سوريا، وما يسري على عدد من أحياء وهران أو صنعاء أو القاهرة يسري على حلب أو بغداد أو الدار البيضاء وصولاً الى باماكو. وما يحصل في العام 2016 في أي بقعة يمكن شرحه كاملاً بناء على أحداث سابقة له في بقعة أُخرى طالما أن سكّان البقعتين مسلمون. والأمر هذا يمرّ إعلامياً، في أغلب الأحيان، بلا تحفّظات أو استنكارات أو رفض هي بالتحديد الردود التي كانت ستلاقيها تعميمات مشابهة تُسقِط على باريس مثلاً أحكاماً منطلقها أوسلو أو هيوستن أو فالنسيا أو حتى مرسيليا. فكيف إن خُلطت الأزمنة بدورِها مع خلط الأماكن والديناميات!


الشأن السوري إذاً يكثّف اليوم هذه الظواهر أو يجذبها لأنه محوريّ، ولأن مقدار القتل فيه فظيع ويُتيح تعليقات بائسة تبحث عن العنف في تاريخ الإسلام أو ثقافته (أي ثقافة؟) أو حركاته المعاصرة. ويغيب عن بال أصحابها البليدين أن أنظمة الاستبداد الشمولي كالبعثية في نسختيها الصدّامية أو الأسدية، استمدّت جانباً أساسياً من وحشيّتها ومأسسة تلك الوحشيّة من تجارب الفاشية والنازية الأوروبية ومن تجارب رومانيا والاتحاد السوفياتي وألمانيا الشرقية الإشتراكية. وهي بالطبع تفوق إجراماً وإرهاباً أكثر الحركات الإسلامية تطرّفاً وعنفاً.


في المحصّلة، أن أوضاع سوريا التي تعَولمت وصارت مرآة لانحطاط العالم، صارت أيضاً مهنة عالمية لمحدودي كفاءة تحوّل رصد الموت والتعليق عليه الى نشاطهم الإعلامي، وصار معه اعتبار أن لا بديل عن الدكتاتورية لضبط السوريّين وغيرهم من شعوب المنطقة القاصرة وإنهاء حروبهم الطاحنة (وتصديرهم اللاجئين الى أوروبا) نصيحتهم وثمرة خبرتهم واختصاصهم العميق...

 

المصدر: ناو