مات أنطوان لحد في 25 أيار من العام 2000. مات حين اندحر الاحتلال الإسرائيلي عن لبنان، فتحوّل من "حاكمٍ عسكريّ" للمناطق المُحتلّة الى باحثٍ عن عمل داخل إسرائيل، ثم الى صاحب مطعم، قبل أن ينتهي به الأمر لاجئاً متخفّياً في فرنسا.

 

ثم مات الرجل مرّة ثانية قبل أيّام. وأثار موته نقاشاً بدا في جانبٍ منه تنكيلاً بجثةٍ طواها العار والنسيان، وفي جانب ثانٍ استذكاراً لأمجادِ قتالٍ لجيشه ضاعت وضاع صانعوها، فيما بدا جانب النقاش الثالث استعادةً لخطابات حربٍ أهلية تحمل سرديّات فجّة وصريحة بقدر ما تحمل نفاقاً ومزايدات.

 

وإذا كان التنكيل بجثّة لا يستأهل التوقّف عنده سياسياً إذ هو طقسٌ ثأري أو انتقامٌ لتعذّر محاكمة، فإن استذكار أطيافٍ من الشيوعيين لنضالاتهم ضد الاحتلال وعملائه، ومسؤوليّتهم عن محاولة اغتيال لحد نفسه التي نفّذتها سهى بشارة، ودفعها ودفعهم أثماناً داخل السجون والمعتقلات، تستحقّ ملاحظتين. الأولى أن المستذكِرين يعدّون ظلماً ما لحق بهم رغم التضحيات، ويحمّلون من أكمل المقاومة من بعدهم ومن حكم البلاد عقب انتهاء الحرب الأهلية مسؤولية الأمر. وهذا إن صحّ يناقض مواقف حزبهم، أو حزبهم السابق، المُوالي للمحور السياسي الذي يقوده ظالموه، والمبرّر التحاقه الدونيّ بهم بمسائل استراتيجية وبخيارات كبرى هي بالتحديد تلك التي استُثني من المشاركة في "صناعتها"، ثم رُحّل تاريخه أو تاريخ أفراد منه عنها.

 

والملاحظة الثانية أنّ في فراغ الراهن السياسي وانحطاطه ما يجعل أي حدث "رمزي" يُعيد صوراً وحكايات من مرحلة حربية كان يَفترضُ كثرٌ ممّن حملوا السلاح خلالها أنهم يؤسّسون لما يُناقضها، فإذا بهم يكتشفون أن كلّ ما بقي لهم بعد أن التهمتهم والتهمت تضحياتهم مطحنةُ الحروب والتسويات هو الحنين والأسى.

 

أما في ما يخصّ إِحياء موت لحد الثاني لجانبٍ من خطابات الحرب الأهلية وما فيها من تبادل اتّهامات بالعمالة وتبريرات لممارسات همجيّة بحجّة الاضطرار والخوف وتوازن القوى، فيفيد التذكير بجملة قضايا ترتبط بموضوع لحد وجيشه وتتخطّاهما.

 

من هذه القضايا أن "جيش لبنان الجنوبي" عبّر، بالإضافة الى عمالته للاحتلال الإسرائيلي، عن واحدٍ من أشكال الاصطفاف الأهلي اللبناني وسرديّاته ومظلوميّاته الطائفية (والتهجيرية).

 

ومنها أن خدمة قسم من عناصره كانت إلزامية، في حين أن خدمات عناصر آخرين كانت إرادية من باب "الالتزام السياسي" أو بهدف التكسّب والسطوة والتحكّم ببلدات ومدن وفق منطق أمراء الحروب الذي كان سارياً على كامل الأراضي اللبنانية، في ظروف وتحالفات متنوّعة.

 

ومنها أيضاً أن جرائم هذا الجيش التي ارتُكبت في المعتقلات وفي عمليات القصف والقنص تُشابه جرائم معظم الميليشيات اللبنانية، مع فارقٍ أنها استمرّت بعد انتهاء الحرب الأهلية ولم تتوقّف الى يوم الانكفاء الإسرائيلي عن الجنوب.

 

ومنها كذلك أن ما سُمّي بملف العملاء تحوّل الى فضيحة، اختلط فيها الطائفي بالمخابراتي بالزبائني. فبعض عناصر جيش لحد استوعِبوا في تنظيمين مذهبيّين أو جرى الصفح عنهم من قبل التنظيمين المذكورين أو حوكِموا شكلّياً وحصلوا على عقوبات مخفّفة، في حين أن آخرين لوحقوا وحوكِموا بصرامةٍ أو مُنعوا من العودة الى لبنان بعد فرارهم عقب التحرير. وفي ازدواجية المعايير هذه وخلفيّاتها الطائفية ما غذّى الجانب الأهلي في معنى التمثيل اللحدي وهويّته.

 

ومنها أخيراً وليس آخراً أن لحد تحوّل في الأعوام الأخيرة الى مجرّد ماضٍ بشع وأن أفراداً من قوىً سياسية عدّة بزّوه عمالةً لإسرائيل إياها، لكنّهم حصلوا على رعاية أو تجاهلٍ لخياناتهم من المتحكّمين بأمور "المقاومة" وأعوانِها، وحوصرت بالتخوين ونظريّات المؤامرة معظم التصريحات والمقولات حولهم.

 

في المحصّلة، ذكّرنا موتُ أنطوان لحد بأن "الذاكرة الانتقائية" في لبنان ما زالت شديدة التأثير في حاضر السياسة، أقلّه خطابياً واستهلاكاً تعبوياً، وأن توالي المصائب والإخفاقات لم يُعدّل كثيراً في أمزجة المتخندقين طائفياً (أو إيديولوجياً) المدّعية على الدوام أحادية نقاءٍ وصوابٍ وحقٍ مطلق...