نفّذَ الحوثيّون انقلاباً أبيض في اليمن على الطريقة الإيرانية الذكيّة التي تُبقي رئيسَ البلاد في موقعه تجنّباً لردود فعل عربية وغربية، فيما تتحكّم في المقابل بالقرار الاستراتيجي للدولة.

التعامل بخفّة مع الانقلاب الأوّل الذي حصل في أيلول الماضي هو الذي قاد وأوصلَ إلى الانقلاب الحالي. فالمسألة لم تقتصر على تقبُّل الانقلاب السابق والتعايش مع نتائجه على أساس «اتّفاقية السِلم والشراكة»، بل تمّ التعامل مع المعطيات الجديدة وكأنّها ثابتة ونهائية من دون الأخذ في الاعتبار احتمال أن يتحيّن الحوثيّون الفرصة لإسقاط الاتفاقية المذكورة واستكمال انقلابهم، فلم تُؤخَذ التدابير والاحتياطات العسكرية لصَدّ وإحباط أيّ محاولة من هذا النوع، الأمر الذي أفسحَ في المجال أمام الانقلاب الأخير الذي جعلهم يُمسكون بمفاصل الدولة الأساسية، ومكّنَ طهران من تحقيق تقدّم نوعيّ.

فما حصلَ في اليمن هو صفعة إيرانية لدوَل الخليج في اللحظة نفسِها التي يتمّ فيها الحديث عن ضعفٍ إيراني نتيجة الأوضاع الاقتصادية وتراجُع أسعار النفط والانكفاء في العراق بعد استقالة نوري المالكي، علماً أنّه باستثناء هذه الاستقالة لم يتبدّل شيء على مستوى إشراك السُنّة في القرار السياسي، وبالتالي السؤال الذي يطرح نفسَه: ماذا يمكن أن تحقّق طهران في حال تجاوُزِ أزمتِها الاقتصادية وتوقيعها للاتفاقية النوَوية، طالما إنّها نجَحت في تحقيق ما سبقَ مِن إنجازات في لحظة «ضعفها» واشتباكها مع كلّ العالم؟

وما حصلَ في اليمن هو انتصار إيراني جديد على قاعدة فَرضِ أمرٍ واقع وتشريعه، ولا يكفي التركيز فقط على إسقاط النظام السوري، إنّما يُفترَض عدم التفريط بأيّ ورقة من العراق إلى اليمن وصولاً إلى البحرين ولبنان، لأنّه يصعب إعادة فرض أمر واقع جديد، وبالتالي من غير المقبول عدمُ وجود سياسات استباقية وقيادة مشتركة لكلّ دوَل عرب الاعتدال وظيفتُها رسمُ السياسات التي تحدّ من التمدّد والنفوذ الإيرانيين، حيث إنّ استمرار هذه السياسة قد يقود إلى تدحرج حجارةِ الدومينو الواحدَ تِلوَ الآخر.

ومِن السذاجة بمكان استمرار الرهان على الغرب، ليس فقط من منطلق أنّ نظام المصلحة هو الذي يحرّك هذه الدوَل، بل لأنّ مسؤولية التوازن والشراكة والدور العربي هو من مسؤولية محوَر الاعتدال الذي من غير المسموح أن يواصلَ سياساته الاتّكائية على الغرب، كما مهادنة الأخير في القضيتين الفلسطينية والسوريّة، خصوصاً أنّ الفوضى عمَّت المنطقة بدلاً من أن يتمّ تطويقها وحصرها تمهيداً للقضاء عليها.

وبمعزلٍ عن النتائج التي ستترتّب على الانقلاب الجديد الذي يمكن أن يدفع الأمور نحو الفوضى، فإنّ اللافتَ في التعديلات الدستورية التي فرضَها الحوثيون تأكيدُ تضمين مسوَّدةِ الدستور أنّ «اليمن دولة اتّحادية طبقاً لمخرجات الحوار الوطني»، ولكن من دون تحديد عدد أقاليم الدولة الاتّحادية، فضلاً عن «توسيع عضوية مجلس الشورى في مدّة أقصاها أسبوع واحد».

وهذه الخلاصة الحوثية ليست وليدةَ الصدفة، بل تدخل في سياق مشروع مبرمَج ومتكامل، بدأ في العراق ويُستكمَل اليوم في اليمن، حيث إنّ المادة الأولى في الدستور العراقي تنصّ بشكل واضح على أنّ «جمهورية العراق دولة اتّحادية واحدة مستقلّة ذات سيادة كاملة، نظام الحُكم فيها جمهوري نيابي (برلماني) ديمقراطي. وهذا الدستور ضامن لوحدة العراق».

وأيّ تشخيص للوضعَين العراقي واليمني يقود إلى الاستنتاج الآتي: إنّ طهران تعمل في الدوَل التي كانت ممسوكة سنّياً بين حَدّين: حَدّ أدنى هو إقرار الفيدرالية قطعاً للطريق أمام أيّ تحوّلات تعيد الأقاليم الشيعية تحت السيطرة السنّية، وحَدّ أقصى يكمن في الإمساك بالقرار الاستراتيجي للدولة مع الإبقاء على حيثية مناطقية مستقلّة تحَسُّبا لتطوّرات دراماتيكية، وترييحاً للسُنّة بإعطائهم إدارةً ذاتية من دون أيّ تأثير على القرار الوطني.
ولكن لماذا ما ينطبق على العراق واليمن ولاحقاً سوريا لا ينسحب على لبنان بتطبيق الاتّحادية؟ وفي الإجابة يمكن التوقّف أمام الآتي:

أوّلاً، لأنّ «حزب الله» ليس معزولاً شيعياً، بل لديه تحالفات عابرة للطوائف، ولأنّه يقود مواجهته ضمن حدّين: حَدّ مواصلة إمساكه بدور لبنان، وحَدّ وضع الجميع تحت وصايته، وبالتالي الوقائع السياسية مساعدة له لا العكس، ما يعني أنّه ليس مضطرّاً للذهاب إلى طرح تراجُعيّ يمكنه اعتمادُه في أيّ لحظة، هذا الطرح الذي كان يمكن دفعه إليه لو لم يتحالف معه العماد ميشال عون في العام 2006، ولم تنكفئ 14 آذار عن مواجهته.

ثانياً، لأنّ السُنّة عموماً وفي لبنان خصوصاً ضدّ الدوَل الاتّحادية لاعتبارات عقائدية تتّصل بتقسيم وشرذمة الأرض الإسلامية والدوَل العربية.

ثالثاً، لأنّ المسيحيين تخَلّوا عن هذا الطرح مع اتّفاق الطائف ولاحقاً انتفاضة الاستقلال، فيما هم أكثر مَن يدفع ثمنَ استمرار غياب الدولة في لبنان والحرب على البارد.

ولكن بما أنّ هذا الوضع الذي بدأ في العام 1969 مرشّحٌ أن يبقى على هذا النحو طويلاً، في ظلّ غياب أيّ أفُق بإمكان إعادة «حزب الله» الذي يتمدّد تباعاً، إلى حضن الدولة، أصبح لِزاماً على المسيحيين، من أجل الحَدّ من الخسائر، رفعُ الغبار عن مشروع الاتّحادية وجعلُه قضيتَهم الأولى في هذه المرحلة، لأنّه عِوضاً عن خسارة الدولة ووجودهم، لا بدّ من الحفاظ على هذا الوجود بانتظار عودة الدولة، خصوصاً أنّ هذا الوجود هو الذي يمهّد لعودة الدولة.