مع رحيل صباح وسعيد عقل برزت نغمة «نق» جديدة داخل الوسط المسيحي مفادها أنّ رحيلَ الكبار الواحد تلوَ الآخر يُذكِّر المسيحيين بزمن تألّقهم وإبداعهم، ويسلّط الضوء على مأسوية وضعهم الحالي وتراجع دورهم.

أفضل ردٍّ فعلي على نغمة الإحباط الجديدة وجَلْد الذات ونعي الواقع المسيحي والتيئيس المتواصل ما قاله الدكتور سمير جعجع يوماً «صحيح أنه مرت علينا في المرحلة الاخيرة عشرات من السنوات العجاف، لكننا لها وعلى قدر كلّ التحديات.

ولا يغيبن عن بالنا أنّ بعد كلِّ عسرٍ يسر. صحيح أننا نعيش انقباضاً ديموغرافياً مرحلياً وتراجعاً نسبياً في دورنا، لكنّ الصحيح أيضاً هو أنّ هذه حال كلّ المجتمعات في التاريخ، دورات متتالية من المدّ والجَزر، ونحن الآن في إحدى مراحل الجَزر(...).

وما ينطبق على المسيحيين في لبنان اليوم ينسحب على كلّ الطوائف، بل ينسحب على كلّ العالم الذي يشهد تراجعاً على مستويات مختلفة أبرزها القيادة السياسية التي لم تعد موجودة لا في أوروبا ولا الولايات المتحدة، ومن أسباب هذا التراجع، ربما، دخول العالم في حقبة جديدة مع العولمة وثورة الاتصالات، حيث إنّ كسر الحواجز وسهولة التواصل والكم الهائل من المعلومات حطم الهالات السياسية، وأدخل الناس في نمط جديد وحياة مختلفة بواقع سريع جداً.

فكّل شيء تغيّر وتبدّل. وهذا التبدّل هو جذري، والزمن الذي نحن فيه هو زمن آخر مختلف تماماً عن الذي سبقه، وبالتالي لا يجوز الحكم على المجتمعات وهي في طور التحوّلات الكبرى. كما أنّ تاريخ البشرية عرف عصورَ انحطاطٍ وعصورَ نهضة. والمجتمعات ليست ثابتة وجامدة، إنما في حراكٍ متواصل. وإذا كانت ثورة الاتصالات قد أدخلت مفاهيم جديدة على حياة الشعوب، فإنّ التأقلم مع هذا الواقع يحصل بشكل تدريجي وتراكمي.

ومن هذا المنطلق، أيّ مراجعة لتاريخ الموارنة تُظهر بأنهم أمة حيّة ومتجدّدة، وتختزن مقوّمات كبرى وهائلة، وتتمتع بحيوية استثنائية، ولكنها كأيّ جماعة أخرى تتأثر بمحيطها وفي طبيعة الظروف التاريخية التي هي بصددها.

وفي هذا السياق لا يجب التقليل من تأثير سنوات الحرب والوصاية في هذه الجماعة، حيث إنّ علامات الضعف التي ظهرت بأدائها وسلوكها هي نتيجة طبيعية وبديهية للكم الهائل من الخسائر البشرية والاقتصادية والسياسية التي تكبدتها على امتداد ثلاثة عقود من الزمن، خصوصاً أنّ الأمور ليست على طريقة كوني فكانت، بل تتطلّب وقتاً لاجتياز الصحراء، والأكيد أنّ الموارنة والمسيحيين على هذه الطريق.

فلا يجب الكلام عن وهنٍ في الدور والإبداع والدينامية من دون الأخذ في الاعتبار أنّ السنوات السوداء بددت كلّ احتياطهم، ولم تترك لهم سوى رصيدهم القائم على وجودهم كجماعةٍ تحبُ الحياة، وتصارع من أجل البقاء. كما لا يجب الكلام عن وهن في الدور في ظلّ ظروف استثنائية ما زال يعيشها الوطن تغيب فيها الدولة ويصبح أقصى طموح الإنسان الأمن والاستقرار، لا الإبداع والحداثة والتطوّر.

فلا خوف على المسيحيين في لبنان، فيما التخويف على مصيرهم ومستقبلهم مقصود من أجل دفعهم إلى الانكفاء والتردد والشلل بهدف إبقاء لبنان مساحة جغرافية تفتقد إلى الروح والطعم والرسالة، كما إبقاء الدولة مفككة للقول إنّ تجربة الشراكة والتعايش والتفاعل غير ممكنة، وإنّ هذه التجربة التي تمظهرت بين عشرينات وأربعينات القرن الماضي انتهت إلى غيرِ رجعة لمصلحة تجربةٍ أخرى وثقافةٍ أخرى تستند في جوهرها إلى العنف.

وإذا كانت التجربة المسيحية تألقت في ما مضى، فلأنها ارتكزت في جوهرها على السلام، ولأنّ مصدر قوّتها هو النظرة إلى الإنسان كقيمة مطلَقة، وقدرتها على النسيان وفتح صفحة جديدة مرحلة بعد أخرى.

ولأنّ المستقبل هو للسلام لا العنف، ولأنّ الهدف الأساس للإنسان، أيّ إنسان، ترسيخ الأمن والاستقرار والعيش بسلام، فالمسيحيون مؤهَلون أكثر من غيرهم لقيادة مشروع السلام في لبنان الذي أنوجد بالأساس من أجل دورٍ محدَّد، حيث لا قوة في العالم قادرة على تغييره، وقدرتها تقتصر فقط على تعطيله لفترة قصيرة ضمن الزمن الطويل، إلى أن ينبعث مجدّداً...