قبل ثلاثة أيام، غادر السفير الأميركي دايفيد هيل بيروت متوجهاً إلى فرانكفورت، في طريق عودته إلى بلاده. خبر مختصر لا يحتمل التأويل ولا الاجتهاد. ولا داعي للتنقيب كثيراً في خلفياته، وتأثيراته على الحدث اللبناني "المعلّق".   أن يستقلّ الديبلوماسي الأميركي طائرة الذهاب أو الإياب، فذلك لن يغيّر حرفاً واحداً في المشهد اللبناني.

ليس لعجز الرجل "الأقوى" بين رفاقه عن إحداث التغيير، ولا لصلابة اللبنانيين في سيادتهم ووطنيتهم ورفضهم تدخل الآخرين في سياساتهم الداخلية.. بل لأنّ وشنطن، الحاكمة بأمرها في شؤون وشجون العالم، لا يعنيها أبداً من الحالة اللبنانية، في أي من تفاصيلها الصغيرة أو الكبيرة، سوى المحافظة على استقرارها الأمني.  

أما تحت هذا العنوان، فيصبح كل شيء مباحاً، ومتاحاً. يتفق اللبنانيون أو يختلفون، فهذا يعود لهم. ينتخبون رئيساً أو يبقون قصر بعبدا خاوياً إلا من غبار صراعاتهم، فهذا من اختصاصهم. يصنعون قانوناً انتخابياً عادلاً يحترم التمثيل الصحيح، أم يبقون على شواذات "قانون الستين" فهذا يعنيهم وحدهم.

المهم إبقاء الوضع الأمني تحت السيطرة.   صحيح أنّ الديبلوماسي العتيق يعرف خبايا الملف اللبناني أكثر من غيره، ويخبر الكثير من عقده غير المرئية وقادر على امتلاك الكثير من مفاتيحه، لكنه ينأى بنفسه عن هذه الزواريب، ويبعد قدر المستطاع عن الواجهة. الكثير من أصدقائه يحرضونه على لعب دور إيجابي في بعض المفاصل، من باب العمل على تكريس قواعد جديدة لكيفية إنتاج السلطة في لبنان، وذلك من باب حماية مسيحيي "بلاد الأرز"، على اختلاف اصطفافاتهم السياسية، في زمن تأكل فيه "داعش" أخضر الأقليات ويابسها.

لكنه يعتمد سياسة التطنيش.   يستمع الرجل إليهم بكثير من الاحترام والتفهّم للهواجس التي تلقى أمامه على الطاولة، لكنه لا يستطيع طبعاً أن يتحرك من دون مظلة تعليمات واضحة توضع في مكاتب الإدارة المركزية في وشنطن، وترسل بالبريد الديبلوماسي المحصّن إلى عوكر. ويسير وفق مقتضياتها.  

غير أنّ للبيت الأبيض منظومة مصالح معقّدة في المنطقة، تحصر اهتمامات طواقمه الديبلوماسية، بملفات محددة: العلاقة مع إيران، التحالف مع السعودية، الوضع العراقي المتقلّب، والأزمة السورية المشتعلة... أما لبنان فلا أثر له على الروزنامة الأميركية.   طبعاً، بات اللبنانيون مقتنعين أنّ واشنطن لا يعنيها من الحراك اللبناني، إلا الإبقاء عليه مضبوطاً ومنضبطاً، حتى لو كانت براكين المنطقة تلفظ حمماً انقلابية قد تبلع حدوداً وتقضم أنظمة وكيانات.. أما لبنان، فمتروك لمصيره على قاعدة "سرّ.. فعين المجتمع الدولي ترعاك".  

هكذا يُفهم تراخي الإدارة الأميركية في التعامل مع مسيحيي الشرق الذين صاروا "هنوداً حمراً"، كقضية قائمة بحد ذاتها وتحتاج إلى معالجة جذرية واهتماماً خاصاً من واشنطن. لا بل ثمة من يعتقد أنّ البراغماتية الأميركية المعرّاة من أي ارتباط ديني قد يجمعها مع مجتمعات مسيحية أخرى، تذهب بأصحابها إلى حدّ الاعتقاد بأنّ مَن تبقى مِن مسيحيي هذا الشرق، هم في أحسن أحوالهم، مقارنة بما يحصل في المنطقة. وليستفيدوا من هذا الوضع...   وهكذا قادتهم شبكة مصالحهم، على سبيل المثال، إلى التدخل فوراً لحماية الأكراد، حين بلغت "الجحافل الداعشية" أعتاب مدينة كركوك، وإلى تحويل كل هموم الكرة الأرضية نحو مدينة كوباني، بينما كانت المدن المسيحية في العراق وسوريا تنزف هجرة وقد تحولت إلى متاحف لذكريات أليمة.  

وهكذا أيضاً يصبح منطقياً تأكيد السفير الأميركي أمام أصدقائه اللبنانيين، عدم وجود استراتيجية أميركية واضحة للملف اللبناني، على عكس ملفات المنطقة، التي تتعامل معها وفق خطّة واضحة، أقله بالنسبة للمطابخ الأميركية.   ما يهمّ بلاده في هذه اللحظات المصيرية من تاريخ المنطقة، هو الحفاظ على هيبة المؤسسة العسكرية في لبنان وحضورها الأمني في مواجهة المدّ الإرهابي. أما غير ذلك، فلا يعود من اختصاصهم. ولهذا تبخّرت كل الدعوات الدولية لإجراء الانتخابات النيابية حين وقع سيف التمديد، وبدا "أولياء الديموقراطية" غير مبالين لنحرها أمام البرلمان اللبناني، بحجة الواقع الأمني المختلّ.

  ومع ذلك، يؤكد الديبلوماسي أنّ بلاده مستعدة لتقديم يد العون في بعض الشؤون السياسية اللبنانية، ولكن بعد أن يضع اللبنانيون بأنفسهم خارطة طريقها. إذ لا يعنيهم فرض أي مسار على أي من القوى السياسية، سواء في ما يخصّ الرئاسة أو قانون الانتخابات أو غيرها من القضايا العالقة.   يحاول بعض مجالسيه من المسيحيين إقناعه بأهمية انتخاب رئيس قوي بتمثيله الشعبي، يكرس هذه المعادلة في الرئاسة الأولى، فلا تكون من نصيب أحد القادة فقط، وإنما تكون خطوة أولى على طريق فرض هذا النمط في المرحلة المقبلة.

يبدي الرجل تفهّمه وإيجابية في التعاطي، ولكن عند التنفيذ.. ما باليد حيلة.   ليس هناك من إشارة واحدة توحي أنّ واشنطن تغلّب مارونياً على غيره في السباق إلى بعبدا. وكما يقول أحدهم: فكل المرشحين الجديّين لا يخرجون من تحت غيمة "العم سام".. ولهذا لا تتحمس الإدارة الأميركية لتزكية أحدهم على غيره، لا بل تترك الغربال اللبناني يقوم بواجبه، حتى لو طال عمر الشغور أشهراً وأشهراً.

  هكذا، صار جلياً أنّ واشنطن لن تُتعب مفاوضيها في حمل الملف اللبناني إلى سوق البيع والشراء الإقليمي، كي تصنع رئاسة لبنانية. بمعنى آخر، لن يكون هناك "ريتشارد مورفي" جديد يحدد خيارات اللبنانيين بين فلان.. أو الفوضى.

ولا هي مضطرة لمجالسة طهران لنسج تسوية شبيهة بتلك التي حصلت مع جمال عبد الناصر لتأتي بفؤاد شهاب ثانٍ.