هذه المرة، تبدو «الولادة الثانية» جديّة. يتهيأ «التيار الوطني الحر» للانتقال من حالة تيار متفلت مهدد بالوقوع في أي لحظة في نفق الفوضى، إلى القالب المؤسساتي الذي يعوّل عليه أبناؤه ليحموا أنفسهم من «تناتش حتمي» سيمزقهم في مرحلة ما بعد ميشال عون. حصل الاتفاق، مع أنّ كثراً استبعدوه. كانت الحصيلة نظاماً داخلياً قائماً على مبدأ الشراكة التي خلعت «عرش الملكية» لمصلحة «الطاولة المستديرة»، وتستند إلى مبدأيْ الانتخاب والمساءلة. فيما رحّلت إشكالية الرئاسة إلى مرحلة لاحقة بعدما قرر ميشال عون تولي الفترة الانتقالية، بانتظار تمتين النظام ومفاعيله. لهذا يفضّل القيادي في «التيار الوطني الحر» نعيم عون التخفيف من وطأة الخلافات الداخلية حول النظام الداخلي، ليعترف أنّ «المسودة الأولى التي عرضت على طاولة البحث، لم تكن مقبولة. وبعد الاعتراض تبيّن أنّ الجنرل وضعها كحجر أساس قابل للتطوير والتعديل وليس كصيغة نهائية». وعلى هذا الأساس بدأت الجلسات الماراتونية التي شارك فيها كُثر ووضعوا رزمة من الملاحظات، إلى أن حُصرت الصياغة الأخيرة بلجنة مصغرة ضمّت إلى الجنرال، الوزير جبران باسيل، النائبين ألان عون وإبراهيم كنعان، ونعيم عون، وقد تولت حياكة الصيغة النهائية، التي سيقف «حزب التيار» على أعمدتها، والتي يفترض أن ترسل إلى وزارة الداخلية لبدء العمل بأحكامها. عن هذه الصيغة يقول نعيم عون إنّ «الأهمية لا تكمن في الهيكلية وإنما في الجوهر القائم على ركائز ديموقراطية: التصويت والمساءلة والانتخاب، أسوة بكل الأحزاب الغربية الموصوفة بالديموقراطية، حيث لا استثناء هنا عن المسار المعتمد في الكثير من الأحزاب العريقة، إن لناحية المجلس الوطني المنتخب وصلاحيات الرقابة المعطاة له، أو لناحية تشكيل المكتب السياسي وقدرته التنفيذية، أو لناحية «قوة» الرئيس المنتخب من القاعدة مباشرة. فكل المواقع الحزبية محكومة إما بالانتخاب وإما بالرقابة الداخلية ما يسقط عنها صفة التوتاليتارية أو القبضة الحديدية». ويفترض أن يحصل الإعلان الرسمي للاتفاق المتضمن العناوين العريضة للنظام الداخلي بعد وضع اللمسات الأخيرة، كما المرحلة الانتقالية التي سيتولاها «الأب المؤسس»، بانتظار أن تنضج المؤسسة وتصبح قادرة على حكم ذاتها بذاتها. ويؤكد القيادي العوني أنّ التركيبة المتفق عليها تلغي مبدأ «الحكم الفردي». لا مَلك ولا حاكم بأمره. «السلطة التقريرية هي نتيجة شراكة حقيقية بين رئيس الحزب والمكتب السياسي المنتخب بمجمله، فيما يتولى المجلس الوطني السلطة الرقابية». راصد الحراك البرتقالي من الخارج، يسجّل على أصحابه أنّهم استهلكوا تسع سنوات من الفوضى المضبوطة، قبل أن يتوافقوا على وضع نظام داخلي، ينتظر منه أنّ يعمّر لما بعد مرحلة ميشال عون. ولكن بالنسبة لأصحاب العلاقة «كانت الأولويات السياسية هي التي تتحكم بالمسار الداخلي، فيما كانت قيادة ميشال عون هي الضمانة للتيار للبقاء على حاله، كونه المؤسس. وهو الذي قرر التحضير للمرحلة الانتقالية التي ستكون تحت إشرافه. ما يثبت، بالفعل لا بالقول، أنّ الرجل ديموقراطي التفكير وملؤه القناعة أن لا استمرارية للتيار إذا لم يتحول تياره إلى مؤسسة منتظمة تحت مظلة المشاركة الكفوءة بين أبنائه». يؤكد نعيم عون أنّ الجنرال أثبت أنه حريص على المؤسسة، على عكس الانتقادات التي كانت تكال بحقه وتتهمه بالسير في ركب من سبقه من زعماء تركوا خلفهم جمهوراً طويلاً عريضاً من دون وعاء حزبي مؤسساتي قادر على حمايتهم وتأمين لهم قوت البقاء. وقد أكدت تجربة «التيار الوطني الحر» التي ستدشّن صفحة جديدة من مسارها الحزبي، أنّ قيادته مقتنعة أنّه ليس وحده بالنظام الداخلي يحيا الحزب، وإنما ثمة حاجات أخرى يفترض توفرها للاستمرارية. يقول إنّ «ما يحفظ الوجود هو التضامن الداخلي بين أبناء التيار الواحد، بعدما ترسخت القناعة أنّ وحدتنا وتضامننا هما خشبة خلاصنا، وهذه تحتاج إلى الشراكة والتكامل، إلى جانب الانتظام في وعاء مؤسسة تحترم الأصول الديموقراطية والمصلحة العامة لا الفردية». هكذا سيبقى ميشال عون رئيساً للحزب في المرحلة المقبلة، ما يعني ترحيل الخلاف بين قياداته حول الموقع الأول إلى وقت لاحق. بالنسبة لنعيم عون إنّ «النظام المتفق عليه قادر على حلّ مسألة التنافس، الطبيعية، بين الطامحين لتبوء أي مركز، نظراً للضوابط التي وضعتها القواعد والتي تكرس المداورة من جهة، والحؤول دون الجمع بين المواقع من جهة أخرى. وهذا ما يحدّ من نتوءة الخصومات الداخلية». أما الضمانات التي يفترض أن ترخي طمأنينة في نفوس العونيين من أنّ نظامهم الجديد هو حاميهم من غدرات الزمان في مرحلة ما بعد ميشال عون، فتتلخص في ثلاث: «النظام بحد ذاته، الثقافة الديموقراطية التي يجب أن تحدد قواعد اللعبة لناحية الخضوع لقرارات الأكثرية والاحتكام لمبدأ الربح والخسارة، وآخرها وجود الأب المؤسس خلال المرحلة الانتقالية للإشراف على حسن تطبيق النظام». وهكذا فإنّ الحاجة إلى مرحلة انتقالية أكثر من ضرورية برأي العونيين لأنها ستساعد على التمرّس على احترام القوانين والقواعد الديموقراطية، لتكون بمثابة انتقال هادئ للسلطة، من مرحلة المؤسس إلى مرحلة المؤسسة. هكذا أيضاً لم يأت النظام الداخلي على قياس أي من «الورثة»، وتحديداً جبران باسيل، حيث يفترض أن يكون «الميراث» عبارة عن شراكة متكافئة بين البرتقاليين. هنا يرد أنّ «واحدة من الارتكابات الإعلامية» بحق وزير الخارجية هي وصفه بأنّه يسعى إلى قيادة «أنا أو لا أحد». ولكن عملياً لم يكن هناك خلاف حول الجوهر وإنما حول شكل الهيكلية، التي يراها كلٌ وفق تجربته، ولهذا تمكنا في نهاية المطاف من صهر تجاربنا في قالب واحد ومقاربة واحدة». أما بالنسبة للانتقادات التي سبق وسجلها على «التيار»، فيشير إلى أنّ «تلك الصرخة كانت للتحذير من أخطاء ترتكب من أشخاص مستفيدين من التيار، وكان لا بدّ من وضع الإصبع على الجرح كي لا يتفشى المرض الى الداخل، فالبكاء على الميت لا يعود نافعاً». وبهذا يتمنى العونيون أن تكون في انطلاقتهم الجديدة «نظرة تفاؤلية للمستقبل، قد تظهر تباعاً على الساحة المسيحية واللبنانية بشكل عام، بعدما أسقطنا مخاوف المحبين ورهانات الكارهين لأنّنا سنتمكن من الاستمرار يداً واحدة بفعل قابلية الحياة وبرغم الأخطاء التي ارتكبت، وأثبتنا أننا غير تقليديين بعدما تعلمنا من دروس من سبقونا والذين تناتشوا على السلطة فخسروا كل شيء».