يتوقف المراقبون باهتمام عند نشاط الحكومة العراقية اللافت في اتجاه بلدين، كانت حتى وقت قريب تتهمهما بالوقوف وراء التنظيمات الارهابية العاملة في بلاد الرافدين.

ويتساءل هؤلاء المراقبون عن سبب زيارة وزير الخارجية العراقي الدكتور ابراهيم الجعفري لتركيا وعن سرّ الاستقبال الحافل الذي لَقيه هناك، وهل هو استقبال يتمتع بطابع اقتصادي تريد من خلاله تركيا ان تبقي طرق بضائعها وسلعها الى الخليج والجزيرة العربية سالكة وآمنة في اعتبار انّ العراق يمكن انّ يشكّل مثل هذا الطريق الذي يدعم الاقتصاد التركي في وقت تبرز مؤشرات قلقة حول مستقبل هذا الاقتصاد؟

ام انّ وراء هذه الزيارة والحفاوة التي أحاطت بها اسباب سياسية تتعلق برغبة تركية في محاصرة مشروع دولة كردستان التي ترتكز على قاعدتها في شمال العراق وتمتد غرباً نحو تركيا وسوريا، خصوصاً انّ لدى البلدين هواجس مشتركة تجاه هذا المشروع؟

ام انّ لهذه الزيارة ايضاً اسباباً نفطية تتعلق بإمدادات نفط عراقية الى تركيا وبتعزيز خطوط امداد النفط والغاز الممتدة من العراق والخليج نحو السواحل التركية على البحر المتوسط؟ ام أنّ في الامر مراجعة استراتيجية مفروضة على تركيا في ظل تطورات الوضع السوري وانقضاض التحالف الدولي على «داعش» و»النصرة» والاحراج التركي الناجم عن هذا التطور؟

كذلك يسأل المراقبون، هل يكون العراق بما له من صلة وثيقة بإيران وتركيا جسراً ليراجع الرئيس التركي رجب طيب اردوغان حساباته تجاه الازمة السورية؟ أم أنّ العراق يريد من تركيا ان تتوقّف عن دعم معارضي حكومته الجديدة، المسلحين منهم وغير المسلحين؟

الواضح أن يُغلِّب أرجحية الحاجة التركية الى العراق على الحاجة العراقية لتركيا هو زيارة الرئيس العراقي فؤاد معصوم للرياض اليوم في ظل التنافس المعلن بين السعودية وتركيا على قيادة السنّة في المنطقة والاقليم، وهو تنافس تظهر تجلياته واضحة في اصرار «جبهة النصرة» المدعومة تركياً وقطرياً على تصفية المجموعات الاسلامية التي تدعمها الرياض في ريفي إدلب وحلب.

والاستقبال السعودي المرتقب للرئيس العراقي يكتسب اهمية، إذ انّ الاخير أعلن قبل أيام انّ الطريق لمواجهة «داعش» يمر بطَيّ الخلافات والانقسامات السياسية في العراق، وهي انقسامات تستطيع السعودية ان تؤدي دوراً مهماً في تجاوزها.

فالرئيس معصوم الكردي والسُنّي في آن يذهب الى الرياض ليؤسس لعلاقة جديدة بين بغداد وأرض الحرمين الشريفين، وهي علاقة ستكون لها انعكاسات ايجابية أيضاً على العلاقة السنية ـ الشيعية من جهة، وعلى العلاقة بين السعودية وايران وسوريا من جهة ثانية.

فالانفراج السعودي ـ العراقي، كما يرى المراقبون، سيسير في العلاقات بين الرياض ودمشق الى منتصف الطريق، فيما سيكون له ايضاً نتائجه في فتح الطرق والمسالك بين المملكة العربية السعودية والجمهورية الاسلامية الايرانية، ولا يمكن قراءة هذا التطور في العلاقة السعودية ـ العراقية بمعزل عمّا يجري في سلطنة عمان من محادثات ثلاثية بين وزير الخارجية الاميركي جون كيري ونظيريه الايراني محمد جواد ظريف والاوروبي كاترين اشتون، وهي اجتماعات يتوقع كثيرون أن تخطو خطوات مهمة الى الامام على رغم وجود متشددين في طهران وواشنطن غير متحمّسين لتسوية نووية غربية ـ ايرانية.

ومن هنا، يقرأ كثيرون مغزى رسالة الرئيس الاميركي باراك اوباما الى المرشد الاعلى للجمهورية الاسلامية السيّد علي خامنئي وكأنّ فيها تطميناً للجناح الايراني المتشدد الى أنّ الاتفاق مع واشنطن لن يكون على حسابه، بل يمكن ان يؤدي الى انفراجات متعددة اقتصادية وسياسية اقليمية ودولية تفسح في المجال لدور ايراني اكبر في الاقليم.

كذلك تهيئ هذه الرسالة الاجواء ايضاً لمراجعة اميركية تجاه الازمة السورية التي لا يخفي المسؤولون الاميركيون الكبار انّ الاولوية فيها باتت لمحاربة «داعش» وأخواتها وليس لإسقاط نظام الرئيس بشار الاسد.

وتتقاطع هذه التطورات ايضاً مع ما تنشره تقارير غربية وعربية عن دور للثنائي الروسي ـ المصري في تشجيع حل سياسي في سوريا يبدأ بتجميد القتال في مناطق ملتهبة في الشمال والجنوب السوريّين على حدّ سواء مروراً بحمص التي زارها الممثل الدولي ستيفان دو ميستورا
والتقى فيها محافظها طلال البرازي وممثلي المعارضة باحثاً في سبل إيجاد حلّ لتجمّع المسلحين في «حي الوعر» على غرار ما جرى للمسلحين في أحياء حمص القديمة.

ويرى المراقبون انّ الحركة الديبلوماسية الناشطة بين عواصم المنطقة والعالم تشي بحصول تحوّلات كبرى في أزمات تبدو بالغة التعقيد، ولا سيما منها الازمة السورية والاتجاه نحو حلّ يُبقي الاسد ويفتح المجال لمعارضة غير متورطة بدماء السوريين لتكون جزءاً من حكومة وفاقية.

وفي هذا الاطار، تشير المعلومات الى انّ موسكو والقاهرة تعملان معاً على إبراز كيان سوري معارض يقف على رأسه الرئيس السابق للائتلاف الوطني احمد معاذ الخطيب تقبل واشنطن بدعمه كممثّل للمعارضة المعتدلة ولا يمانع النظام في حوار معه يستكمل المصالحات الداخلية التي شملت حتى الآن 43 منطقة متوترة.

فهل يمكن القول انّ العراق بحركته السياسية تجاه انقرة والرياض قد بدأ يتحوّل من ملعب الى لاعب في النزاع الذي تشهده المنطقة؟ وهل بدأ التسليم الدولي والاقليمي والعربي ببقاء الاسد ضمن نظرية إعطاء الاولوية لمكافحة الارهاب وهي الاولوية التي أصرّ الوفد الرسمي السوري الى مؤتمر «جنيف ـ 2» أن تتصدر جدول اعمال هذا المؤتمر فيما أصرّت المعارضة، ومَن وراءها، على إعطاء الاولوية لتشكيل هيئة الحكم الانتقالية التي أقرّ النائب وليد جنبلاط بأنّ الاسد سيبقى رئيساً فيها.

امّا «داعش» فيبدو انّ لها قصة أخرى، فكل المؤشرات من عين عرب (كوباني) السوريّة الى بيجي العراقيّة، الى أخبار تفيد عن إصابة «الخليفة» أبو بكر البغدادي بالقصف الجوي، وقبلها تطورات طرابلس والشمال، تدلّ الى انّ «داعش» قد دخلت مرحلة العد العكسي.