تزدحم على جدول أعمال عواصم الدول الكبرى في هذه الأيام العناوين المتصلة بالشرق الأوسط. زنار من النار يلف المنطقة، وقد يغير معالمها السياسية والجغرافية وحتى الديموغرافية. الطباخون الدوليون دسّوا أيديهم في الطبق الموضوع على النار، وكلّ يريد طهيه وفق مكونات وبهارات مصالحه، قبل أن يجلسوا سوياً على طاولة تقاسم الحصص والنفوذ.
تتغير الأولويات في زمن «التنين الداعشي» وما يمكن له أن ينهش من حدود الجغرافيا ومربّعات النفوذ. عنوان «مكافحة الإرهاب الدولي» قد لا يُعفي دولة من ضريبته، الآن أو مستقبلاً.
بهذا المعنى، تصبح المسألة اللبنانية هامشية جداً في روزنامة الاهتمامات الدولية والإقليمية، طالما أنّ سقف التفلّت الأمني تحت السيطرة وطالما أنه يمكن لأهل الحل والربط السيطرة عليه، ولا يحتاج إلى تدخل سياسي خارجي سريع لإخماد ناره، وهذا ما يفسّر الإسراع الدولي في تسليح الجيش اللبناني، من زاوية الحرص على عدم الإخلال بـ«الستاتيكو» السياسي والأمني الراهن.
هذا لا يمنع أن يكون للحراك السياسي مطرحه على الطاولة المحلية، لا بل تصير الحاجة مضاعفة طالما أنّ حراك المنطقة قد يغيّر وجهها. ولهذا لا يختلف اثنان في أنّ اللبنانيين، ولا سيما المسيحيين، يواجهون اليوم تحدياً وجودياً، أسوة بكل الأقليات في المنطقة، ليس لأن نيران «داعش» تأكل الأخضر واليابس بل لأن الزلزال الحاصل في المنطقة قد لا يأخذ بالحسبان، مصير هؤلاء، وما المصير الأسود الذي حلّ بأكراد مدينة عين العرب، وقبلهم مسيحيي الموصل ونينوى، إلا النموذج الذي لا يمكن لأحد إنكاره. ولهذا، ثمة قناعة مشتركة لدى شريحة واسعة من المسيحيين أنّ هذه الظروف الصعبة، تشكّل تحدياً جدياً أمام قياداتهم، لكي تعيد درس حساباتها. عملياً، انكسر اصطفافا 8 و14 آذار مذ أن قرر وليد جنبلاط أن يغني على موال «الوسطية»، ومذ أن فُتحت قنوات الاتصال بين «التيار الوطني الحر» و«المستقبل». تدريجياً، تلاشت الحدود وصار اللعب خارجها مألوفاً، ولم يعد من المحرمات، لا بل صار مباحاً تسجيل خرق في أي ملعب كان.. بذريعة الأوضاع الاستثنائية لبنانياً.
برغم ذلك، لا تجد شخصيات مسيحية أكاديميّة عاملة في الشأن العام ومن خارج الاصطفافين، تفسيراً لجدار الفصل الذي يزداد ارتفاعاً بين مسيحيي 8 و14 آذار، مع أنّ وجه الصراع المحلي يتغيّر جذرياً وثمة انقلابات في المنطقة، والرمال الإقليمية تبتلع كل من يقف في وجهها، والاشتباك السني ـ الشيعي يحاصر الحدود وقد يخرقها في أي لحظة «فهل يعقل أننا لا نجد في خضم هذا كله من يكسر الاصطفافات ويقول إن المصلحة العليا تقتضي تنازلاً من هنا وتنازلاً من هناك»؟
لم تسقط متاريس الخصومة المسيحية ـ المسيحية، برغم توافر فرصة ذهبية يفترض اقتناصها كي يتنازل القادة الموارنة عن بعض حقدهم المتوارث تجاه بعضهم البعض، لصياغة أرضية مشترك، هم بأمسّ الحاجة إليها ليثبتوا أقدامهم عليها، حتى مع خلافاتهم.
ليس المطلوب بنظر هؤلاء الصارخين في برية الانقسام المسيحي عموماً، والماروني خصوصاً، «توحيد الرأي أو الاندماج الكلي في حزب واحد أو في صالون واحد، وإنما تستدعي التحديات الكبيرة التي تواجه كل مكونات المنطقة، أن يحدد هؤلاء هواجس جمهورهم والمخاوف التي تجتاحهم، كما الخيارات المتاحة أمامهم، والدور الممكن أن يلعبوه».
لم يتعلم هؤلاء من دروس وليد جنبلاط. حتى لو رذلوا تقلباته، أو برروا قفزاته، «فهو استشعر خطورة الزحف الداعشي قبل الآخرين وقرر أن يحمي طائفته على طريقته الخاصة، حتى لو أدى به الأمر الى مغازلة «النصرة» حماية لجنوده المخطوفين عندها، ومن ضمن مراجعة علنية، كما فعل في مقابلته الأخيرة عبر شاشة «أو تي في».
هذا ما لم يتجرأ عليه أي من القادة الموارنة. حــتى المبادرة التي لا تستوجب اتفاقاً مسبقاً ولا يمكن للآخر أن يرفضها، بدت مفقودة. الكل هنا يتساوى في المسؤولية، بمعزل عمّن هو صاحب الخيارات الصحيحة.
لم يستفد المسيحيون من تجاربهم الدموية، ولم يتخلوا عن نسقهم الإلغائي، حتى لو كان تدميرياً لمجتمعهم. إنها من المرات النادرة التي تتسع فيها الهوة الفاصلة بين القيادات وقواعدها الجماهيرية بهذا الحجم. صار الرأس في جهة، وبقية أعضاء الجسم في جهة أخرى. حرب الرئاسة تصيب المرشحين بعمى الألوان، فلا يرون إلا ما يريدون من أحجار الشطرنج الموجودة أمامهم. هم يصرون على أن يقبعوا في زواياهم، وأن ينتظرون ولو طال انتظارهم وكانت نتيجته المزيد من النزف والهجرة وتغيير مجمل الديموغرافيا اللبنانية.
وبينما يبحث رئيس حزب «القوات» سمير جعجع عن فذلكات لغوية لتخفيف الخطر التكفيري، الذي رجمته السعودية، بينما لم يبلغ هو درجة «تكفيره»، لا يتوانى «القواتيون» القاطنون في المناطق الحدودية لا بل في أعالي جبيل وكسروان عن حمل السلاح حتى لو أتاهم من مخازن قاسم سليماني، دفاعاً عن وجودهم المهدّد «بالصوت والصورة».
في المقابل، فإنّ من يربّت على كتفي رئيس «تكتل التغيير والاصلاح» ميشال عون تأييداً لخياراته الاستراتيجية ودعماً لمواقفه، لا يجد في الحزب البرتقالي ونظامه الداخلي وأدائه السياسي، وعاءً استيعابياً لغير «الحاشية»، فينكفئ جانباً في انتظار تبلور خيار ثالث أكثر ضماناً للمستقبل. أما رئيس «الكتائب» أمين الجميل فلا يطمح في هذه المرحلة إلا لبلوغ مرتبة «مرشح رئاسي» بصفة توافقي، ولو اقتضى الأمر تنازلاً من هنا أو من هناك.
بنظر هؤلاء المسيحيين المعترضين على أداء قياداتهم، «كان المفروض ملاقاة الزعيم الدرزي في مبادرته الخارقة للخنادق والاصطفافات، لتشكيل لوبي سياسي ضاغط قادر على حماية البلد من أعاصير الخارج. هذا لا يعني بالضرورة الاكتفاء بهواجس هذه الأطراف من دون غيرها، إذ إنّ أي مبادرة ناجحة يجب أن تأخذ بالاعتبار مخاوف الآخرين، سواء في ما يتصل بسلاح «حزب الله» ومصيره ومشاركته في القتال السوري، أو في ما له علاقة بنفوذ «تيار المستقبل» وارتباطاته الإقليمية وما يمكن لتطورات المنطقة أن تحمل له».
يعتقد أكثر من قيادي مسيحي غير حزبي «أنّه كان بإمكان قادتهم لعب دور جسر تفاهم وطني، لكنهم فوّتوا الفرصة أكثر من مرة.. وقد يجدون أنفسهم مضطرين في نهاية المطاف الى ركوب القطار بدلاً من قيادته».