نصف قرن من الحلم والرجاء لينتهي بسؤال مثل جرح عميق: هل يصبح لبنان دولة يوماً؟
يبدو لي من الخلفية السيكولوجية لصوغ هذا السؤال الموجع، الذي يطرحه الدكتور شارل رزق بعدما عمل رسولياً في الدولة اللبنانية وعاين من داخل، كيف ضرب الفشل في هياكل السلطة، وكيف نخر العفن في أسس الثقافة السياسية وأسقط قواعدها الوطنية عند معظم الزعماء والقادة اللبنانيين، انه لم يرد او صعُب عليه في نهاية كتابه الجديد، ان يقطع الأمل وان يسقط الرجاء فطرح السؤال ما اذا كان لبنان سيصبح دولة!
في كتابه "بين الفوضى اللبنانية والتفكك السوري" الواقع في ٢٦٢ صفحة، والذي من اول حرف الى آخر حرف فيه كتب بجبلة من صدق المعايشة الواقعية، وبكثير من المرارة المفجوعة وهي تراقب وطناً كان يمكن ان يكون اجمل من حلم، لكنه تهاوى عهداً بعد عهد وحكومة بعد حكومة ونائباً بعد نائب (وما اكثر نوائبك يا لبنان)، في كتابه هذا حرص على ألا يصوغ مرثاة للوطن الذي يحب حتى اعماقه، بل ان يصوّر مكامن السياسيين والمسؤولين وأخطاءهم التي تستحق الرثاء والتي جعلت من الدولة اللبنانية أصعب من الرهان الصعب وأقرب الى حلم مستحيل!
أعرف الدكتور شارل رزق صديقاً منذ ثلاثة عقود، وما ناقشته يوماً إلا واكتشفته مدهوشاً لا يصدق ما يجري من الفظائع والسرقات على أيدي المسؤولين في الدولة وغير مصدّق ان الفساد عندنا من ضروب الوقاحة، واننا تعلمنا ان أيسر الطرق الى الزعامة والسلطة هي الاستزلام، وهكذا لم يفاجئني ان بين فصول كتابه الرائع عنواناً مثل "حافظ الاسد والانتحار الجماعي الللبناني" او "المحور السوري - الايراني" او "بين الرمضاء والنار"!
منذ اختاره فؤاد شهاب في فريقه الذي حاول وضع نواة لدولة لم يلبثوا ان حطّموها، الى ان تولى ادارة وزارة الانباء ثم "تلفزيون لبنان"، ثم وزارة العدل اخيراً حيث عمل كما يعمل الميزان الصالح، كان شارل رزق علامة فارقة داخل بيت الدولة، ولهذا عندما يكتب عن تجربته في الحياة السياسية اللبنانية التي عايش جلجلتها وقد سار اليها الوسط السياسي المسؤول بعيون مفتوحة، فإنه يسرد الوقائع بكثير من الموضوعية الهادفة، من الدوّامة الفلسطينية الى الوصاية ثم الى التفكك السوري.
لكن سيكولوجيا الانشاء والحافز في الكتاب ليسا تأريخاً للفشل الفاجع، الذي اصاب الدولة اللبنانية في الصيغة الكيفية والسلوك السيئ الذي اوصلها الى الافلاس، بل الحضّ على التعلّم من أخطاء الماضي الكارثية وبناء مشروع الدولة اللبنانية سقفاً جديداً جامعاً فوق كل سقوف الخصوصيات، يحمي بلداً يشكل نموذجاً حضارياً لأهله وللعرب والعالم... لأن "الخيار اللبناني هو الوحيد الذي يجعلنا جديرين بالاستقلال".