إيران في العراق هي الأقوى. نَأت بنفسها عن التحالف الدولي، أو استُبعِدَت، لكنّها لم تفقد القدرة على التعطيل، وهذه ليست مستمدّة من إمكاناتها، بل من مخزون الواقع الذي كَرّسه الأميركي في العراق منذ أن شَنّ الرئيس جورج دبليو بوش حملته العسكريّة تحت شعار إطاحة صدّام حسين.

يومها، سَرّحَ بول بريمر الجيش العراقي من ثكناته، وحضّ الأكراد على ترتيب دولتهم، وآزرَ الطيف الشيعي للوقوف في وجه السنّة. وعندما خرج، ترك وراءه عراقاً مهشّماً، ومقسّماً الى أقاليم عرقيّة مذهبيّة.

تَحظى الحملة الأميركيّة اليوم ضد صدّام الجديد، «داعش»، بتغطية ائتلاف عريض، من مجلس الأمن، الى الدول الكبرى الدائمة العضويّة فيه، الى الاتحاد الأوروبي، الى دول مجلس التعاون الخليجي «بنك التمويل»، الى تركيا، ومصر، والأردن، ولبنان. وحدَها إيران كانت خارج مؤتمرَي جدّة وباريس، ووحدَها دخلت في سجال موصوف مع إدارة الرئيس باراك أوباما حيال «التورّط الجديد في وحول المنطقة؟!».

تشير الحسابات الديبلوماسيّة المتداولة إلى أنّ الصورة الإيرانيّة قد اهتزّت في العراق مع خروج نوري المالكي، وأنّ حيدر العبادي ليس رجل إيران القوي، بمقدار ما هو رجل التسوية الأميركيّة - السعوديّة - الإيرانيّة. وبالتالي، هناك خطوط حمر جديدة لم تكن مرسومة في وجه طهران سابقاً يُفترض مراعاتها.

إلّا أنّ الجانب الإيراني يرى أنّ نفوذه في العراق لا يقتصر على شخص، بل على مؤسسة، ولا على منصب أو حقيبة، بل على عقيدة وفكر ونهج، وعندما تبلغ الأمور حدّ الخيارات الصعبة، ستُدرك الولايات المتحدة الأميركية كم أنّ النفوذ الإيراني متأصّل ومتجذّر وفاعل، إلّا أنّ الأمور لن تبلغ حدّ الصدام والمواجهة، لأنّ هناك أوراقاً كثيرة مشتركة ومصالح يمكن البناء عليها، فضلاً عن أنّ الامتحان الدولي الجديد لا يستهدف الطيف الشيعي في العراق بمقدار ما يستهدف السنّة، وحَسم الخيارات ما بين معتدل ومتطرّف.

يتصرّف الإيرانيّون من موقع القوّة، وعلى قاعدة أنّ الدور والنفوذ في العراق مضمونان، ولا خوف عليهما. لكنّ الخوف، كلّ الخوف، ممّا يُحاك ضدّ النظام السوري. وبالتالي، ضدّ «حزب الله» وتوغّله في الصراع، واستطراداً ضدّ النفوذ الإيراني. تتصرّف طهران من منطلق أنّ العراق مجرّد واجهة أو مظلّة، فيما الهدف المحوري عند التحالف الأميركي - الدولي هو النظام السوري، والرئيس بشّار الأسد تحديداً، وبعض حلفائه.

وأنّ الحملة التي تستهدف «داعش» إنما تستهدف «محور الممانعة» من روسيا الى إيران مروراً بـ»حزب الله»، وأنّ «كَسر شَوكة» هذا المحور يعني انتهاء دوره الفاعل والمؤثّر في لبنان، واليمن، والبحرين، والمنطقة الشرقيّة من المملكة العربية السعوديّة، وبعض دول الخليج الأخرى.

تَنبُع «نَقزة» «حزب الله»، من وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل، من هذه الخلفيات: يذهب الى جدّة، ثم الى باريس من أجل ماذا؟ هل ليربط لبنان بقطار التحالف الأميركي الدولي الذي يريد ضرب المحور الإيراني - السوري، وتنحية الأسد عُنوة عن السلطة، ووضع اليد على النظام والجيش السوري، وتعميم الفوضى الخلّاقة عن طريق تعميم الإقتتال المذهبي، والطائفي والفئوي، لتنتقل النار سريعاً الى الهشيم اللبناني القابل للاشتعال في أيّ وقت؟

جواب باسيل أنه خارج كلّ هذه الظنون والهواجس. تصوّره واضح: لبنان مُعتَدى عليه من إرهاب «داعش»، و»جبهة النصرة»، ومَن لَفّ لفّهما. بلدة عرسال ومحيطها هي النموذج الأول، والنموذج الثاني أنّ الإرهاب، بخلاياه النائمة أو الناشطة، أصبح في صحن الدار، والحقائق الماثِلة على الأرض واضحة.

وبناء على ما تقدّم، فإنّ مشاركة لبنان في مؤتمرَي جدّة وباريس تهدف الى تمكين الجيش من الدفاع عن النفس، ومواجهة الإرهاب الزاحف من وراء الحدود، أو من بعض مخيمات النزوح والمخيمات الفلسطينيّة، وأيضاً أن يساعد المجتمع الدولي لبنان على مواجهة مليون ونصف مليون نازح تحوّلوا قنبلة موقوتة قابلة لإحداث زلزال داخلي في أيّ وقت. لبنان لن يذهب الى سوريا لمقاتلة «داعش»، كما فعل «حزب الله»، ولن يذهب الى العراق. إنه ضدّ التورّط في شؤون الآخرين، وإمكاناته لا تسمح، ونقطة عالسطر.