تستطيع الولايات المتحدة أن تنهي ظاهرة "داعش" في العراق في وقت قصير نسبياً مثلما أنهت ظاهرة "الزرقاوي" قبل انسحابها منه، أي بالاستعانة بالبيئة التي يفترض أن تحضنه. وهذا أمر يجري التحضير له الآن رغم أن التعقيدات التي تواجهه هذه المرة أكثر من التي واجهته في السابق. هذا ما يؤكده المتابعون الأميركيون من واشنطن لسياسة بلادهم أنفسهم. لكنهم يلفتون إلى أنها لن تفعل ذلك في سرعة لأن ما يجري في العراق أفاد أميركا. ذلك أنه أفسح أمامها في المجال للعودة إلى العمل والنشاط في هذه المنطقة وبطلب ملحّ من دولها رغم العداء المعلن والسافر بينها. ففي العراق عادت لاعباً أساسياً أو ربما الأساسي بين الآخرين المهمين وفي مقدمهم الجمهورية الإسلامية الإيرانية. ولاقت هذه العودة ترحيباً من الجميع بل حصلت بطلب مباشر من بعضهم، وغير مباشر من بعضهم الآخر بسبب الحاجة إليها. ويذكِّر المتابعون أنفسهم هنا بأن إدارة الرئيس باراك أوباما التي سحبت القوات الأميركية من العراق، سعت عبر مفاوضات جدية وطويلة مع المسؤولين العراقيين إلى الحصول على موافقتهم لإبقاء وجود عسكري في بلادهم يحمي سفارتها في بغداد وقنصلياتها خارجها، ويساعد في تدريب القوات المسلّحة والقوى الأمنية والأجهزة الاستخبارية. ولم تستعمل الإدارة المذكورة يوماً تعبير إقامة قاعدة عسكرية في العراق لأنها تعرف حساسية شعبه أو شعوبه حيال ذلك، علماً أن جوهر مطلبها كان قاعدة في العراق لأهداف محدَّدة ولكن قابلة للتطوير والتكبير. وقيل يومها أن سبب اللااتفاق كان رفض حكومة بغداد منح العسكريين الأميركيين الباقين في البلاد حصانة تجعلهم غير مسؤولين أمام القضاء العراقي. وهذا القول صحيح.
لكن الصحيح أيضاً في هذا الموضوع أن الحاج قاسم سليماني "الممثل" الإيراني الأهم في العراق رفض ذلك تنفيذاً لتعليمات دولته. ولم يكن في استطاعة رئيس الوزراء في حينه نوري المالكي الرفض، وربما لم يكن موافقاً هو أيضاً. علماً أن إيران التي كانت قاب قوسين أو أدنى من تحقيق حلم السيطرة التامة على العراق لم يكن متوقعاً أن توافق على قواعد عسكرية أميركية على أراضيه لأن من شأن ذلك تهديد سيطرتها هذه على المدى البعيد. وأسباب خوفها كثيرة منها أن الولايات المتحدة قوة عظمى أو أعظم في العالم. ومنها أيضاً أن الشعب العراقي شعوب (مثل لبنان) واحد منها "معها للقتل" كما يقال بسبب الخوف من الآخرين ومن المحيط. وواحد "ضدها للقتل" لسبب مماثل. أما الثالث فعلاقته جيدة معها لكنها ليست علاقة "تحالف تبعي"، فضلاً عن أن علاقاته الأميركية والاقليمية جيدة.
طبعاً، يلفت المتابعون إياهم الى ان إيران ليست سعيدة بما يحصل في العراق اليوم. لكن الحاجة تدفعها إلى التعامل معه كأمر واقع. والبراغماتية والواقعية تدفعانها إلى محاولة الإفادة منه لحل مشكلاتها مع أميركا والمجتمع الدولي على نحو يحفظ مصالحها ودور إقليمي لها تقبله شعوب المنطقة ولا يخاف منه العالم، وليس على النحو الذي كانت تطمح هي إليه.
إنطلاقاً من ذلك يرى هؤلاء المتابعون أن أميركا تُظهِر الآن أنها لن تتخلى عن المنطقة، كما كان يظن، وبخوف، حلفاؤها، وكما كان يتمنى أعداؤها. ففي العراق ستكون لها قاعدة عسكرية مهمة وكبيرة في كردستان (إربيل) ولها أو ستكون لها قاعدة عسكرية في المملكة العربية السعودية. ولها قاعدة عسكرية في دولة قطر. أما أسباب عدم التخلّي فكثيرة أبرزها السيطرة على خزان النفط في العالم الذي هو الشرق الأوسط، واستعمال هذه المادة الحيوية في الصراع مع روسيا بوتين وبطريقة تضطره إلى مواجهة متاعب داخلية اقتصادية ومالية واستثمارية، وتالياً إجتماعية وربما سياسية مستقبلاً. وفي هذا المجال، يرجِّح هؤلاء أن لا ينجح بوتين، من خلال اتفاقه مع الصين على إنشاء خط أنابيب لنقل النفط والغاز الروسي إليها عبر سيبيريا، في تلافي آثار مساعدة أميركا لأوروبا كي تستغني عن الغاز الروسي. ذلك أن الصين ليست "حبتين"، فهي لن تستورد الغاز منه بـ"أسعاره الأوروبية" بل بنصفها أي بحسم 50 في المئة، وذلك مع كلفة بناء الخط التي هي 65 مليار دولار سيضاعف المشكلات الروسية. وهذا ما أشارت إليه وسائل إعلام أميركية مهمة. إلا أن الصين تبقى في رأي المتابعين إياهم مصدر القلق الوحيد لأميركا في آسيا. وهي تعمل كثيراً لحماية حلفائها في المنطقة وفي مقدمهم اليابان والفيليبين وكوريا. لكن أحداً لا يستطيع التكهُّن منذ الآن بالنتائج.