لا شك في أن المرجع الأعلى للشيعة في العراق آية الله السيد علي السيستاني أبدى استياءه أكثر من مرة من سياسات الرئيس نوري المالكي في الداخل وتساهله حيال خرق القوانين أو عدم تطبيقها، رغم الاحتقان الشعبي الذي كان يرافقهما، يقول المتابعون العراقيون الموضوعيون أنفسهم. لكنهم يلفتون الى أن اعتراضه واستياءه شملا في الوقت نفسه "الطبقة السياسية" كلها بمواليها والمعارضين. ولا سيما المنتمين الى الطائفة الشيعيّة منهم. وقد عبّر وكلاؤه أكثر من مرة عن ذلك في خُطب الجمعة، كما عبّر عنه هو شخصياً بقرار اتخذه قبل أشهر كثيرة من الانتخابات النيابية يقضي بعدم استقبال السياسيين وأحزابهم ومعهم المسؤولين الحكوميين وغير الحكوميين. إلا أن السيستاني الذي كان وصل في قرارة نفسه الى اقتناع بضرورة ابتعاد المالكي عن السلطة، لم يضع قراره هذا موضع التنفيذ قبل الانتخابات المذكورة تاركاً للشعب العراقي بكل مكوّناته الفرصة للتعبير عن رأيه في الأوضاع السيّئة السائدة، ولا سيما في ظل انتقاده الدائم الحكومة ورئيسها ومطالبة معظم قياداته السياسية بتغيير حكومي جذري، ويعني ذلك أنه اتخذ جانب الحياد في الانتخابات التشريعية الأخيرة، وقد أوضح ذلك مباشرة ومداورة بالتأكيد أن المرجعية الدينية العليا لا تدعم فيها طرفاً على حساب آخر، وأن الأمر متروك لإرادة المواطنين الذين يختارون من يشاؤون من المرشّحين ومن القوائم الانتخابية. لكنه في الوقت نفسه كان يدعو الى التغيير من دون أن يوضح المقصود بالتغيير. كان يقول لزوّاره مباشرة وعبر وكلائه: انتخبوا من ترون عن اقتناع أنه يؤمِّن مصالحكم ويحقِّق التغيير. كان هو مقتنعاً بعدم أهليّة المالكي للبقاء في الحكم، لكنه أراد ترك الناس على حريتهم، علماً أنه كان قادراً، سواء بالإيحاء أو بالتوجيه، على الحؤول دون حصوله على 103 نواب، كما كان في استطاعته ومن دون مبالغة خفض هذا العدد الى النصف تقريباً، لكنه اختار أن لا يفعل.
ماذا حصل بعد ذلك؟
فاز المالكي بأكبر كتلة نيابية، يجيب المتابعون العراقيون أنفسهم، وبدأ يضغط كي يحتفظ برئاسة الحكومة مستعملاً كل الوسائل التي في حوزته. وبدأت المرجعية الدينية العليا تتلقّى رسائل عدة من قيادات أساسية شيعيّة، كما من قيادات أساسية أيضاً في المكونات الأخرى للشعب العراقي، تضمّنت تشديداً على رفضها المطلق للولاية الحكومية الثالثة للمالكي، كما تضمّنت مطالبة بترشيح بديل منه من "التحالف الوطني" الشيعي في معظمه. لكن السيد السيستاني ارتأى عدم التدخل في هذا الأمر وانتظار ما تُسفر عنه حوارات الكتل السياسيّة. وأبلغ إلى كل من التقى في حينه، ومنهم ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة، أنه لن يتدخل في تشكيل الحكومة الجديدة إلا إذا حصل انسداد سياسي، وواجهت البلاد أزمة خانقة تهدّد العملية السياسية برمتها، وذلك رغم ملاحظاته الكثيرة على المالكي وأدائه وسياساته ومسؤوليته عن الهدر والفساد، ورغم تحوّله في رأيه عائقاً أساسياً أمام أي تقدّم حقيقي في المجالات المهمة كالأمن والخدمات والتنمية الاقتصادية وغيرها. ذلك أنه ورغم إلحاح المرجعية الدينية العليا لم يشنّ له حملة على الفاسدين ولا على الخارجين على القانون، بل ساهم في تفشّي الفساد وحماية ممارسيه. وقد أظهر استيلاء "داعش" على مناطق عراقية واسعة مسؤوليته وعدم كفاءته.
ما الذي جعل آية الله السيد السيستاني يتخلى عن الحياد ويعطي الضوء الأخضر لإزاحة الرئيس نوري المالكي؟
لا شك في أن نجاح "داعش" في الموصل ومحافظة صلاح الدين كان دافعاً في اتخاذ قرار التخلي عن الحياد، يجيب المتابعون العراقيون الموضوعيّون. لكن دافعاً آخر كان وراء التخلّي المشار إليه هو تلقّي السيد السيستاني رسالة خطية من قيادة "حزب الدعوة" الإسلامية الذي ينتمي إليه المالكي مؤرخة في 26 شعبان (الموافق 25 حزيران الماضي) شرحت له فيها أن رئاسة الحكومة الجديدة يجب أن تكون من نصيب أحد أعضاء الكتلة النيابية للحزب باعتبارها فازت بالعدد الأكبر من النواب. وكان يعني ذلك أن ما تطلبه القيادة "الدعْوَتية" هو تزكية المرجعية للمالكي. وكان ختام الرسالة الآتي: "نحن نتطلّع الى توجهاتكم وإرشاداتكم ونعاهدكم أننا رهن أمركم بكل صدق في المسائل المطروحة وفي كل المواقع والمناصب لإدراكنا عمق نظرتكم وانطلاقاً من فهمنا للمسؤولية الشرعية".
ماذا كان جواب المرجعية الدينية العليا؟