أدرك المجتمع الدولي بغالبيته أواخر القرن الماضي، أن العالم الإسلامي - العربي يتحوّل نحو الراديكالية الدينية جرّاء فشل كل الأيديولوجيات والنظريات السياسية والأنظمة التي حكمت دوله وشعوبه في حلّ مشكلاتها الداخلية، وجرّاء فشلها في حلّ مشكلاتها مع الخارج وأبرزها تأسيس دولة إسرائيل بقرار – وعد بريطاني وبدعم دولي شامل. وقد سهَّل ذلك ضعف الدول العربية والإسلامية، ولا يخفى ما لفلسطين وخصوصاً للقدس فيها من مكانة رفيعة جداً عند المسلمين.
وقد ظهرت الراديكالية بنشوء تيارات إسلامية دينية – سياسية – عسكرية ساهم كبار في الغرب والعرب في نشوئها، واستعملها الأول في مواجهته منافسه اللدود الاتحاد السوفياتي. لكن الاثنين عجزا لاحقاً عن احتوائها أو عن تطويعها أو عن ضربها ففتحت على حسابها، وبدأت حروباً جهادية ضد الفريقين نفسيهما في مناطق متفرقة من العالم، اعتبرها قادته إرهاباً موصوفاً، وعجزوا رغم ترساناتهم العسكرية وتعاونهم عن انهائه. وعلى العكس من ذلك فإنه تفشّى وانتشر بسب انتشار التيارات المشار إليها أعلاه، في العالم الإسلامي وفي أوساط مسلمي دول العالم غير المسلم كلها.
أثار ذلك القلق في نفوس قادة المجتمع الدولي، وخصوصاً في المناطق التي تشكّل قاعدة انطلاق له، وقواعد لجوء وحماية ورعاية، والتي لهذا المجتمع فيها، وفي مقدمه زعيمته حتى الآن على الأقل أميركا، مصالح حيوية واستراتيجية أبرزها النفط وإسرائيل.
هذا الإدراك المذكور أعلاه جعل المجتمع الدولي بغالبيته، ينظر بإيجابية وتفاؤل إلى وصول "حزب العدالة والتنمية" الإسلامي المحافظ و"الإخواني" الجذور إلى الحكم في تركيا عام 2012، وخصوصاً بعدما نجح على مدى 12 سنة في حل مشكلات داخلية عدة اقتصادية واجتماعية، وبعدما بدأ يسلك طريق حل المشكلة الكردية المزمنة في بلاده. والدافع إلى نظرة كهذه كان أن تركيا المسلمة بـ"إسلاميتها" الحديثة، وبكونها قوة إقليمية كبرى وحليفة موثوق بها في آن للولايات المتحدة والغرب عموماً بدليل عضويتها في حلف شمال الأطلسي، أن تركيا هذه تستطيع أن تقوم بدور مهم ومباشر مع الإسلاميين في الشرق الأوسط، وخصوصاً في العالم العربي "مسقط" "الإخوان المسلمين". ومن شأن ذلك دفعهم إلى "الحداثة" وإلى التعقّل وإلى بناء دول عصرية ومجتمعات حديثة، متصالحة مع شعوبها ومع الشعوب الأخرى في العالم، وعاملة على رفع الظلم عن نفسها وعن غيرها، ولكن بوسائل غير إرهابية وغير عنفية، ورافضة العودة 1400 سنة إلى الوراء، أو بالأحرى إلى العصر الجاهلي. لكن إيجابية المجتمع الدولي حيال تركيا الإسلامية وتفاؤلها لم يكونا في مكانهما. وقد ظهر ذلك بعد بداية "الربيع العربي" أواخر الـ2010 في تونس. ففي مصر التي بلغتها شمسه بعد أشهر قليلة، لم يتصرّف "الإخوان المسلمون" بطريقة توحي أنهم يشابهون من حيث العصرنة والحداثة والالتزام الديني والتزام الديموقراطية والحريات واحترام الآخر أشقاءهم "الاخوان" الأتراك. وفي سوريا لم يتصرف "الاخوان" أيضاً على نحو يشابه هؤلاء. فضلاً عن أن منظمات إسلامية متطرّفة جداً نشأت من رحمهم وعلى أطرافهم، راحت بعيداً في الغلو وفي العودة إلى الماضي السحيق من دون تدقيق جدّي فيه. واللافت هنا هو أن تركيا الإسلامية المحافظة إياها تعاطت مع "أشقائها" المصريين ثم السوريين ومع الجدد على يمينهم، على أنهم حلفاء فغطَّتهم وساعدتهم، رغم علمها أن ذلك سيقود بلديهما والمنطقة كلها إلى منزلقات خطيرة. وبهذا المعنى يمكن القول إنّ رهان المجتمع الدولي على إسلاميّي تركيا تحقَّق عكسه، إذ أظهر تصرّفهم منذ قرابة أربع سنوات أنهم صاروا مثل "أشقائهم" العرب بدلاً من أن يجعلوا هؤلاء مشابهين لهم. وبدلاً من أن يشكّل "الإخوان" العرب، بدعم ورعاية تركيين، عامل الاستقرار الأمني والاقتصادي والدولتي في العالم العربي، وهم أعرق "الجماعات" الإسلامية وأكثرها عدداً، تحوّلوا عاملاً يمسّ هذا الاستقرار وفقدوا حتى الآن على الأقل وزنهم وهيبتهم، لمصلحة المنظمات الجديدة الأكثر تطرّفاً ودموية رغم عدم عراقتها. وأوقع ذلك العرب والمسلمين في الفوضى والفتن والقلق.
إذا كانت الإسلامية "الإخوانية" العربية – التركية فشلت في دفع المنطقة إلى الاستقرار، ونجحت في تلطيخ صورة الإسلام دين الوسطية والتسامح والرحمة، فأيّ إسلامية أخرى أو إسلام آخر قادر على تحقيق ذلك وهل لا يزال لـ"الإخوان" دور؟