ظنّ كثيرون في الشرق الأوسط، سواء من حلفاء الولايات المتحدة أو من أعدائها، وخصوصاً قبل انطلاق "الربيع العربي" وتحديداً قبل شموله سوريا، أن الجهمورية الإسلامية الإيرانية تفوّقت عليها في هذه المنطقة من العالم بعد نجاحها في إقامة محور يمتد من طهران ويمر في بغداد ودمشق وبيروت وينتهي في فلسطين وتحديداً غزة، وبعد اقتناع حلفاء واشنطن فيها بأن الجمهورية المذكورة صارت تشكل تهديداً جدياً لهم بل خطراً داهماً عليهم. وبعد شروق شمس "الربيع" في عدد من الدول العربية، وتحديداً بعد تهديدها بـ"تكشيح" ظلام الاستبداد المتنوع في سوريا، ظنّ الكثيرون أنفسهم أن مسيرة النجاح الإيراني ستتوقف، وأن مصيرها النهائي سوف تحدده المواقف الدولية وفي مقدمها الموقف الأميركي. لكن الظنّ الثاني هذا لم يدم طويلاً. فمن جهة قاتلت الجمهورية الإسلامية الإيرانية بضراوة عبر حلفائها وهم نظام الأسد في سوريا، و"حزب الله" الممسك بمقدرات كثيرة في لبنان، ونظام نوري المالكي في العراق، إذا جاز التعبير على هذا النحو، المستند إلى غالبية شعبه الشيعية العربية وإلى سيطرتها وربما هيمنتها على الأقلية السنية العربية، وإلى تحالف أو على الأقل علاقة جيدة وتعاون مع الأقلية الكردية في الشمال. وحال هذا القتال، الذي استُعمِلت ولا تزال تُستعمَل فيه محرَّمات كثيرة انسانياً ودينياً، سواء من إيران وحلفائها أو من أعدائهم، دون انتصار "الربيعيين" السوريين، ومكّن نظام الأسد من التقاط الأنفاس بعدما نجح الثائرون عليه في تشليحه أكثر من 50 في المئة من الجغرافيا السورية. ومن جهة أخرى، تصرّف الحلفاء العرب والمسلمون لأميركا المؤيدون وبقوة لـ"الثورة" في سوريا والخائفون كلهم من إيران وطموحاتها الاقليمية غير المحدودة، بعشوائية وبقلَّة تخطيط وبانعدام تنسيق في ما بينهم. لا بل تنافسوا وبشدّة أثناء دعمهم الثورة في الداخل وثوار الخارج. وتسبَّب ذلك بفقدان هذا الخارج أي تأثير أو هيبة أو وزن أو احترام أو صدقية عند ثوار الداخل. كما تسبب بانقسام هؤلاء. ومن جهة ثالثة قدّم التنافس الذي تحوّل صراعاً بين روسيا فلاديمير بوتين وأميركا باراك أوباما، ثم خوف الصين من العمل الأميركي المستمر لمنع تمددها في منطقتها بعدما نجحت في الانتشار خارجها وخصوصاً في افريقيا في غفلة عن اشنطن، قدّم هذان التنافس والخوف إلى إيران الإسلامية الدعم الذي تحتاج إليه في المواجهة، وكان كبيراً. ومن جهة رابعة وأخيرة، وهي الجهة الأكثر أهمية ربَّما من غيرها، وفَّر موقف أميركا أوباما الذي وصفه عربُها على تنوعهم ومسلموها في الشرق الأوسط بالتردُّد أو التخاذل أو الجهل أو قلة الوفاء أو التجاهل أو الافتقار إلى الخطة، وفَّر لإيران وحلفائها وداعميها المذكورين أعلاه الفرصة الجيدة للاستمرار في تحدّيها من جهة، وتحدي رغبات الشعوب في المنطقة من جهة اخرى، وربما في إفقادها الاحترام والصدقية وحتى المحبة.
ولعل الموقف الانتقادي لأوباما بسبب مواقفه او لامواقفه من "ثورة" سوريا، التي أعلنتها وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كيلنتون بعد استقالتها، يؤكد وبوضوح أن الاستياء منه لم يكن عربياً وإسلامياً فقط، بل كان أيضاً اميركياً وإن منطلقاً من مصالح ومن اقتناع بأنه يضعف اميركا ونفوذها، ويقلّص دورها، وينهي قيادتها للعالم. وفي ذلك خطر عليها على المدى البعيد. ومن شأن ذلك دفعها إلى الانعزال الذي له أنصار ومؤيدون أميركيون لا يستهان بعددهم حتى الآن، والذي يزداد كلما خاضت أميركا مغامرة خارجية أو حرباً مدروسة سقط بنتيجتها آلاف من ابنائها بين قتيل وجريح، وتأذى بسببها أيضاً الاقتصاد. علماً أن الانعزال كان دائماً يفاجئها بكونه ليس الحل وليس الحامي لاستقرارها وأمن شعبها ورفاهيته ولمتانة اقتصادها. وأبرز مفاجأة كانت معركة "بيرل هاربور" التي ضربت "الاسطول البحري" الأميركي، وأيقظت القيادة والشعب في أميركا من أحلام الانعزال إلى واقع التدخل والقيادة في العالم على أخطاره الكثيرة. ومن الأدلة الحديثة على وجود استياء اميركي من أوباما "الشرق الأوسط" انتقاد كلينتون له في مذكراتها، ثم في تصريح آخر لها جاء فيه: أن "القيادة هي أن لا تفعل شيئاً غبياً". وهو الشعار الذي أطلقه أوباما، ليس فيه شيء من القيادة.
كيف أثّر الواقع المشروح أعلاه على الوضع في المنطقة؟ وهل تستمر إيران وأخصام أميركا بل أعداؤها في تحسين أوضاعهم أم يبدأون التراجع؟ وهل أوباما من أنصار مدرسة انعزال أميركا؟