"الموقف" عن الأوضاع اللبنانية و"الأخطاء الشائعة" سيتناول اليوم الجيش ثانية. ولا يهدف ذلك الى النيل من قيادته وضباطه ورتبائه وجنوده، بل الى عدم تحميلهم مسؤولية تصحيح أوضاع ليسوا مسؤولين عنها، وإلى عدم محاسبة الجيش إذا عجز، لا سمح الله، عن حماية البلاد في هذه المرحلة الخطيرة، أو اذا أخفق في منع اقتتال شعوبها. ذلك أن الإخفاق والعجز لن ينجما عن نقص في أهلية العسكريين والأمنيّين وفي تدريبهم وفي انضباطهم، وفي استعدادهم للتضحية بحياتهم من أجل الوطن، بل عن نقص في الأسلحة وفي المعدات، وقبل ذلك عن غياب الموقف السياسي الرسمي وعن انقسامه وعن تناتش السلطة بين الطوائف والمذاهب، وعن رهن الزعامات اللبنانية نفسها ولبنان وشعوبه للخارج على تنوعه وتناقضاته. وهذا أمر عاناه دائماً العسكريون في الجيش والقوى الأمنية وشكوا منه، لكن آذان الدولة كانت صمّاء.
ما هو "الخطأ الشائع" الذي سنتحدث عنه اليوم؟ انه شعار "الجيش هو الحل" الذي رفعه اللبنانيون، وإن منقسمين، مرات عدة منذ استقلالهم. وما يدفع الى تناوله الحملة الاعلامية، البروباغندية، الشعبية التي تمجّد المؤسسات العسكرية والأمنية، وتضع على عاتقها مسؤولية إنهاء وضع شاذ في "عرسال" وإنهاء وضع شاذ في لبنان. وهذا أمر ليس في مقدورها القيام به لأسباب يعرفها اللبنانيون. اللافت في الحملة المشار اليها أن المشاركين فيها ينتمون الى شعوب لبنان كلها، التي سبَّب تناحرها وتحاقدها وتقاتلها السياسي والأمني والعسكري شلل الدولة وتعطيل المؤسسات فصار اللبنانيون قاب قوسين وأدنى من الحرب. فاذا كان اصحابها صادقين في رغبة الخروج من الحال المرعبة، عليهم أن "يُقنعوا"، أو بكل صراحة أن يضغطوا، على زعاماتهم وقياداتهم وأحزابهم وتياراتهم وحركاتهم ومرجعياتهم كي يتوقفوا عن تبادل التحريض والتقاتل من أجل مصالح خاصة وطائفية ومذهبية وخارجية. وذلك ممكن لو كانت البلاد في حال "غير حربية" بواسطة الانتخابات. علما أن تجارب الماضي مع الشعوب اللبنانية تؤكد انها شاطرة في "النقّ" وفي تعداد الأخطاء وفي تحديد وسائل الاصلاح و العلاج. لكنها يوم الحساب تذهب "شاطرة" ايضاً وصاغرة لإعادة انتاج مجلس نيابي قادته وحلفاؤهم خارجه مسؤولون عن إيصال لبنان الى حاله المأسوية الراهنة. أما والبلاد على الحال الموصوفة أعلاه فان شعوبها نفسها تبقى قادرة على التحرّك المجدي وذلك عبر عدم الاستمرار في الانقياد وراء الطبقات السياسية التي توارثت السلطة، والتي استعملت الحروب والمال والاسترهان للخارج للوصول اليها والمحافظة عليها. ويعني ذلك عدم النزول الى الشارع كلما دعوها الى تظاهرة طابعها فئوي أو شخصي.
انطلاقاً من ذلك يمكن التأكيد أن "الجيش ليس الحل" وحده هو الشعار الواجب رفعه. فالحل هو الدولة الفاعلة والقادرة والعادلة. ومشكلة لبنان هي غيابها، الأمر الذي ترك الجيش وحيداً إمّا من دون قرارات سياسية توجّهه باعتباره منفِّذاً لسياسة الدولة وتوجهاتها، وإمّا مع قرارات تجميلية ومبتورة أو مع مواقف متناقضة تدفعه إلى المساومة من أجل فرض أمنٍ ما. والمساومة ليست من شيم الجيوش.
طبعاً يجب عدم إغفال أن أصحاب شعار "الجيش هو الحل" ينتمون الى العالم العربي الذي هو جزء من العالم الثالث المتخلّف. وفي دوله اعتبر الجيش نفسه الحل، فانقلب على أنظمتها بذريعة انه يريد التصحيح أو التحرير أو القضاء على فقر وفساد وإقطاع وعدم مساواة ومسّ لحقوق الانسان. لكن النتيجة كانت أنه أسَّس أنظمة عسكرية استبداديّة تسعى شعوبها الى التخلّص منها منذ سنوات. علماً ان الأنظمة غير العسكرية في العالم نفسه تعتمد في أمنها على العسكر على اختلاف مؤسساته وتمارس بواسطته استبداداً سياسياً واجتماعياً مع حريات اقتصادية، الأمر الذي يميّزها قليلاً عن الأنظمة العسكرية. ويجب عدم إغفال حقيقة أخرى هي أن انقسام لبنان المزمن حال دون تنفيذ شعار "الجيش هو الحل"، وهو لا يزال قائماً، بل إنه تجذّر لدرجة أن اللبنانيين صاروا يخشون تقسيماً أو حرباً تفتيتية. ولذلك فان استحالة تطبيقه على دولة الـ10452 كلم2 لا تزال قائمة.
لذلك على الجيش، وتحديداً على قيادته، أن لا تنخدع بالتأييد الاجماعي الحالي لأنه ظاهري، فالشيعة يريدون منه ضرب التيارات الأصولية التي تهدّدهم مباشرة لأسباب عدة. والسنّة يريدون منه وقف الحزب الشيعي الأول عن تنفيذ أجندة تؤدي الى الهيمنة على البلاد. والمسيحيون لا يعرفون ماذا يريدون، أما الدروز بزعامة وليد جنبلاط فيسعون الى تفاهم مبدئي لأن دخول لبنان مباشرة حرب سوريا يهدِّد وجودهم.
هل من "أخطاء شائعة" أخرى في الأوضاع اللبنانية؟