من "الأخطاء الشائعة" أيضاً في الحياة السياسية بل الوطنية اللبنانية الادعاء، وبجزم أن لبنان رسالة ويصلح أن يكون نموذجاً يُحتذى في العالم، وتحديداً في الدول التعدّدية. واعتباره نموذجاً يعني أنه كان قدوة في العيش المشترك بين مواطنيه المسيحيين والمسلمين ولا يزال كذلك وسيبقى. واعتباره نموذجاً يعني أيضاً أنه كان قدوة في العيش المشترك بين أبنائه الشيعة والسنّة، ولا يزال قدوة وسيبقى. وصفة "الرسالة" التي أُطلقت على الوطن اللبناني، لم تكن لبنانيّة. إذ كان البابا يوحنا بولس الثاني أول مَن استعملها في محاولة منه لإقناع اللبنانيين بوطنهم وتجربة تعايشهم رغم تنوّع انتماءاتهم الدينية والمذهبية. واللبنانيون، وخصوصاً محترفي السياسة من زعاماتهم ومرجعياتهم وقياداتهم، تمسّكوا بها بل تبنّوها. لكنهم لم يبذلوا شيئاً لترجمتها عملياً، فبقيت شعاراً فارغاً. وربما كان سبب ذلك عجز متأصّل عندهم، أو ربما تخلُّف عند "الشعوب" التي "تزعّموا" عليها. وعلى العكس من ذلك، فإنّ طول الفترة الزمنية، التي انقضت منذ اطلاق شعار "الوطن الرسالة" أثبت أن لا علاقة له بـ"الرسالة". اذ بدلاً من أن تنطلق شعوبه، عام 1990 بعد انتهاء حروبها الأهلية وحروب الآخرين بواسطتها، في تحويل وطنها "رسالة" وفي بناء دولة تعامل الجميع بالتساوي، فإنها انتقلت من الحرب الطائفية المسيحيّة – المسلمة إلى الحرب المسلمة السنّية – الشيعية. وبصراحة أكثر يمكن القول وبثقة إنّ لبنان الحديث، ومنذ تأسيسه عام 1920 على يد فرنسا المنتدبة عليه ثم بعد استقلاله عام 1943 وفي عام بدء الحروب 1975 ، لم يكن وطن رسالة وعيش مشترك حقيقي. ولم يكن دولة ديموقراطية فعلية، ولم تعش شعوبه وحدة وطنية حقيقية، ولا يكفي الرخاء الاقتصادي بل الازدهار اللذان شهدهما لبنان منذ استقلاله حتى عام 1975 للقول إنه كان سليماً وطنياً، وإنّ دولته كانت جدّية، وإنّ مؤسساته كانت متماسكة. ولا يكفي الأمن المستتب معظم تلك المدة للقول إنّ حال البلاد سليمة. ففي مرحلة ما قبل الاستقلال، كان المسلمون (بقيادة السنّة) يفضلون الوحدة مع سوريا على الاستقلال. ثم ساروا بالاستقلال بعد الميثاق الوطني الشهير الذي وقّعه الزعيمان الاستقلاليان بشارة الخوري ورياض الصلح. لكن ذلك لم يمنع قيام "ثورة" 1958 التي لا تحجب أسبابها المحلية، وهي صحيحة، الطموحات القومية العربية لقسم من أبناء لبنان وخوف قسم آخر من ابنائه منها، جرّاء حرصهم على دورهم ونفوذهم ووحدتهم الوطنية والدينية وربما على استئثارهم بمعظم السلطة. كما انه لم يمنع "استعمال" البعض للوجود الفلسطيني في لبنان للحصول على حقوق مهدورة له أو لتأمين نصيب وافر له في الحكم لاعتباره نفسه غالبية شعبية. ولم يمنع ايضاً "استعمال" المسيحيين لاسرائيل وللغرب، علماً أن الواقعية تقتضي الاعتراف بأن الفريقين جهلا، أو تجاهلا، أن حليفيهما الخارجيين يستعملانهما لأهدافهما، وأن مصلحة لبنان أو حلفائهما من ابنائه هي آخر همّهما. أما بعد الحرب التي واجهته نيفاً و15 سنة فحدّث ولا حرج عن الخطأ الكبير الذي مورس عندما حاول قادته وزعماؤه وسياسيوه ومسؤولوه إشاعة أن لبناناً جديداً قام، وان أسباب الحروب بينهم قد تمت ازالتها. وكان ذلك ايضاً من الأخطاء السياسية الشائعة والقاتلة. ذلك أن هؤلاء كلهم كانوا يعرفون أن الميثاق المجدَّد والدستور الجديد لن يطبّقا، اولاً لأن شعوب لبنان التي استرهن النظام السوري معظمها صارت عاجزة عن استعادة حريتها، ولأن بعضها دخل معه في شراكة تقودها ايران. ودخل لبنان حرباً مذهبية اسلامية سياسيّة قد تكون الآن في طور التحول حرباً عسكرية وأمنية.
في أي حال، لا بد في هذا المجال من الإشارة إلى شعار "لبنان الشركة والمحبة" الذي رفعه البطريرك بشارة الراعي فور تحوّله سيد بكركي، وذلك باعتباره دليلاً اضافياً فاقعاً على الخطأ السياسي الشائع في لبنان. فالشركة، وتعني الشراكة في المصير والواجب والحقوق والمسؤولية والتقدم والقيم، صارت "شركة" بالمعنى التجاري من حيث الفساد والكذب والتحايل على القوانين وجعل الأولوية للربح فقط السياسي والمادي ايضاً. أما المحبة فنتمنى أن يخبرنا سيدنا الراعي أين هي؟ فهي غائبة عن "الشعب المسيحي" الذي صار بدوره شعوباً بسبب أنانية زعاماته. وغائبة عن الشعب السنّي والشعب الشيعي وبينهما بل غائبة عن لبنان كله. وفي اجواء كهذه، كيف يقاوم لبنان محاولات تغيير وجهه بل جوهره الرسالي؟
هل من أخطاء سياسية شائعة أخرى عند اللبنانيين؟