ليست المرة الأولى، وطبعاً لن تكون الأخيرة، التي يتبيّن فيها أن لـ"تيار المستقبل" أكثر من لسان. بعض تلك الألسنة، وفق باغضيها، لا ينطق إلا تحريضاً وبثّاً للسموم الطائفية، حفاظاً على مكتسبات الشارع. وبعضها الآخر يتعامل بواقعية مع الأمور يغلّب عليها حسّ المسؤولية، حتى لو كان الثمن من كيسه الجماهيري.

 

هكذا انتظر سعد الحريري أن يُفرغ كل ضباطه وجنوده ما في بطونهم من مواقف تناولت الجيش اللبناني الذي كان يخوض "معمودية" الدم والنار مع "القوى السوداء" الزاحفة من جرد عرسال إلى قلب البلدة.. قبل أن يتدخّل بالحرف والكلمة ليضع نقاطه الحاسمة.

 

وفق بعض المعارضين، فقد رقصت مواقف بعض "الحريريين"، لا سيما "الثلاثي الشمالي" محمد كبارة ومعين المرعبي وخالد ضاهر، فوق جثث شهداء الجيش الذين كانوا يسقطون برصاص "الغدر الظلامي" دفاعاً عن السيادة والأرض اللتين انتهكتا بالصوت والصورة أمام أنظار الجميع.

 

طبعاً، كُثر لم يهضموا الحملة التي شنها النواب الشماليون على المؤسسة العسكرية ولم يقنعوا بالمبررات الانتخابية - التعبوية التي تساق في مثل هذه الحالات، لا سيما أنّ بيان "كتلة المستقبل"، والذي يفترض أنه "البوصلة"، لم يُعفِ "الغرباء" من مسؤولية الارتكابات التي كانت ترتكب، لا بل حيّد الضاحية الجنوبية عن مرمى سهامه.

 

كان وقع المؤتمر الصحافي الذي عُقد في طرابلس، ثقيلاً على الآذان والأذهان. حتى أبناء "الصف الأزرق" لم يبلعوا مفرداته ولم ينجحوا في الدفاع عن هؤلاء، سواء داخل الجدران المغلقة، أو على جدران إعلام التواصل الاجتماعي.

 

وسرعان ما أُتلف بيان فؤاد السنيورة المقتضب لأنه لم يتمكن من استيعاب موجة الاستنكار والتأفف التي صبّت غضبها على النواب الثلاثة. فكان لا بدّ من أن ينطق زعيم "المستقبل". حتى "القوات" وجدت نفسها "مزروكة" في خانة الإحراج من كلام الحلفاء وقد بدا الشارع المسيحي بسواده الأعظم مسانداً للجيش في جرحه النازف.

 

هكذا اضطر الشيخ لأن يكون حاسماً في خياره. لا مجال هنا لترف "رمادية المواقف". إما أن يكون مع الجيش في حربه الشرسة وإما أن يكون ضدّه. كان لا بدّ أن يوقف سيل الاجتهادات السياسية التي طافت من كوب تياره وفريقه السياسي، فتأرجحت بين التبرّع للتفاوض مع "الإرهابيين" وبين تحذير المؤسسة العسكرية من تكرار "نموذج عبرا"!

 

ثمة تفسير واحد متداول بين "الزرق" لحالة الانفصام التي عبّر عنها "المستقبل" في تعددية مواقفه. إنها الخصوصية الشمالية التي تعكسها مرآة النواب في كلامهم المتفلت من أي ضوابط سياسية، والمخترق كل السقوف المنطقية والمقبولة.

 

برأيهم، هؤلاء يعبّرون عن نبض الشارع الشمالي، السنيّ تحديداً الذي يعاني من تخلخل ميزان الثقة مع المؤسسة العسكرية. الحجة التخفيفية اليتيمة الموجودة في جعبتهم، تقول إنّه في حال تلكأ نواب المنطقة عن مجاراة مشاعر جمهورهم، فلن يجدوا بعد أسابيع قليلة أياً من مناصريهم إلى جانبهم وبمقدور أي "تنظيم داعشي" أن يلتهم الطبق الجماهيري.

 

لكن حسابات سعد الحريري، كما يرى "الزرق" مختلفة. فلا يزال الرجل هو الزعيم والقائد، الذي يفترض أن يأخذ جمهوره إلى المكان الذي يرى فيه مصلحته، لا أن ينقاد وراء الغرائز والخطابات التحريضية. ولهذا لا يمكن له أن ينساق وراء الشعارات التعبوية، حتى لو أراد ذلك.

 

ومع ذلك هو يتفهّم هذا التشظي في المواقف التي تصيب "البيت الأزرق" قبل غيره، لأنه يعتقد أنّه يتماهى مع نبض قسم من الشارع، حتى لو خلا من العقلانية والمنطق السياسي. وهو بالتالي "مجبر لا بطل" في تصويب الخطاب وتوجيهه وإن لم يلق رضى الناس وقبولها.

 

ولهذا، فإنّ "الشيك على بياض" الذي وقعه رئيس "تيار المستقبل" للمؤسسة العسكرية من خلال تأكيده الدعم غير المشروط، قد لا يكون بمثابة "أمر اليوم" لضباطه لينضبطوا تحت سقفه. وقد تتردد الأصوات الاعتراضية وقد تتكرر معزوفة "إخضاع أهل السنّة" من جديد، لأنه يعرف أنّ "حرب المزايدات" السياسية التي يشهدها المسرح الشمالي لن تعفي نوابه من فريضة التصعيد.. ولو بلغ حدّ التناقض معه.