من يتابع الصحافة الإسرائيلية وتصريحات المسؤولين الإسرائيليين يلاحظ أنّ شبح حرب تمّوز 2006 على لبنان هو المسيطر على عقول أصحاب القرار في تل أبيب، الذين لا يخشون شيئاً كخشيتهم من تكرار السيناريو اللبناني مجدّداً في حرب غزّة.

ففي يوم واحد، هو الأحد الفائت برزت مجموعة مشاهد لبنانية في وقائع الأحداث الدامية في قطاع غزة، فالمجزرة التي تعرّض لها أهل حيّ الشجاعية في المدينة، وهو حيّ منسوب إلى أحد المقاتلين الأكراد الذين استشهدوا في تلك المنطقة وهم يصدّون هجوماً للفرنجة على غزة، فسُمّيت المدينة باسمه وهو «شجاع الكردي».

فالمجزرة التي تعرّض لها هذا الحي تُذكّر بتلك المشاهد التي عرفَها أبناء الضاحية الجنوبية لبيروت وقانا والمنصوري والنبطية الفوقا وغيرها من المناطق اللبنانية، والتي أدّت إلى ارتفاع منسوب الغضب العربي والإسلامي والدولي.

ومن المشاهد اللبنانية التي تكرّرت في غزّة إطباقُ المقاومين الفلسطينيين على مدرّعات الاحتلال، بما يشبه مجزرة الدبّابات في وادي الحجير وسهل الخيام، والتي أدّت إلى سقوط الحرب البرّية في لبنان يومها، وستؤدي إلى سقوط الحرب البرّية في غزة أيضاً.

ومن المشاهد كذلك تزامُن المعارك الميدانية مع المفاوضات السياسية، إذ يخشى الإسرائيليون أن يجري تعديل المبادرة المصرية لتتضمّن مطالب الفلسطينيين بما يشبه التحوّل الذي أصاب مبادرة «البنود السبع» الشهيرة التي جاء بها الرئيس فؤاد السنيورة من روما وسقطت في ميدان الجنوب اللبناني.

ويلاحظ المتابع لوسائل الإعلام الإسرائيلية أنّه مع كلّ فشل إسرائيلي في تحقيق أهداف الحرب في لبنان كانت حكومة تل أبيب تهرب إلى الأمام فتتورّط في الحرب أكثر وتتكبّد مزيداً من الخسائر البشرية والمادية والسياسية والعسكرية والأخلاقية.

والخشية الإسرائيلية الأكبر أن يتوصّل الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس إلى اتفاق مع رئيس المكتب السياسي لحركة «حماس» خالد مشعل ليظهر الموقف الفلسطيني موحّداً، فيصبح حينها الموقف الإسرائيلي في وضع صعب، لأنّه يواجه الفلسطينيين سياسياً وميدانياً في آن، وهو أمرٌ تدرك تل أبيب أكثر من غيرها خطورته على مستقبل المواجهة مع الفلسطينيين.

ويؤكّد مراقبون أنّ وحدة الموقف الفلسطيني ستؤدّي بالضرورة إلى تطوير المبادرة المصرية، أو تعديلها، بما يأخذ في الاعتبار المطالب الفلسطينية ويخرج المقاومة في غزة من إحراج وقعَت فيه حين رفضَت المبادرة المصرية في شكلها الأوّل، فاستُخدِم هذا الرفض لتحميلها مسؤولية الدماء التي تسيل فوق أرض غزّة.

فحين يتوحّد الموقف الفلسطيني ويتوحّد خلفه الموقف العربي والإقليمي لا يجد الإسرائيليون بُدّاً من الإقرار بحقوق أهل غزّة في رَفع الحصار والمعاناة عنهم، وربّما في فتح ملف المطالب الفلسطينية عموماً من جديد، بعد أن ظنّ الإسرائيليون أنّهم نجحوا في دفعها بعيداً من خلال سياسة التسويف والمماطلة التي مرّت بها المفاوضات بين رام الله وتل أبيب.

يُضاف إلى خشية الإسرائيليين عموماً، خشية رئيس حكومتهم بنيامين نتنياهو خصوصاً، الذي بدأ يشعر أنّه انزلقَ إلى فخّ نصبَه له حلفاؤه الأكثر تطرُّفاً، مثلما كان الأمر مع رؤساء سابقين، كشمعون بيريز الذي حاولَ استخدام «عناقيد الغضب» ليعاد انتخابُه، ففشلَ فشلاً ذريعاً أمام أرييل شارون يومها، وكما حصل مع ايهود اولمرت الذي يرتع تعيساً في السجن اليوم.

ولعلّ ما نضَح به وزير الخارجية جون كيري خارج الهواء في مقابلته التلفزيونية الأخيرة حين تهكّم على «الجراحة الدقيقة» التي وعد بها نتنياهو وأركان حربه، فإذا بها تتحوّل مأساةً إنسانية كبيرة وفشلاً عسكرياً صارخاً.

وحسب خبراء في النزاع العربي ـ الإسرائيلي، فإنّ الميدان الفلسطيني قد كشفَ حجم الخلل البنيوي في الكيان الإسرائيلي الذي، حسب كثيرين، قد دخل عصر الهزائم منذ صمود بيروت الأسطوري عام 1982 في وجه الحصار الإسرائيلي وخروج المقاومة من شوارعها لتحرّر الأرض اللبنانية عام 2000 ما عدا مزارع شبعا وتلال كفرشوبا والجزء الشمالي من قرية الغجر.

ولذلك يعتقد كثيرون أنّ ما بعد حرب غزة سيكون حتماً غير ما قبلها، وأنّ تداعيات هذه الحرب سيكون لها انعكاسات على كلّ مستوى وفي نطاق الإقليم كلّه، فيتقدّم منطق المقاومة على أيّ منطق آخر، وتُرسَم معادلات جديدة تعيد صَوغ الإقليم برُمَّته.