«لا صوت يَعلو فوق صوت المعركة». هذا هو العنوان الحقيقي للمرحلة. وكلّ محاولة أو مبادرة للتّلهي بشؤونٍ «لا لزوم لها»، من نوع الإنتخابات الرئاسية والنيابية، ليست سوى تعبئة للوقت السياسي الضائع.

ذوو القرار الحقيقي في الإنتخابات الرئاسية والنيابية، وأبرزهم «حزب الله»، لا يُكلّفون أنفسهم حتى التّلهي في إطلاق المواقف أو الطروحات والروزنامات السياسية والإنتخابية، ولا حتى على موائد الإفطارات الإحتفالية. إنهم لا يمتلكون الوقت لهذا النوع من «الترف» الذي لا يُسمِن ولا يُغْني عن جوع.

وغالباً ما يَظهر «الحزب» وكأنّه غير معني إطلاقاً بالإنتخابات وتفاصيل اللعبة السياسية الداخلية، فيما هو منصرف بكليته إلى الشؤون الإستراتيجية. وتبدو الصورة شبيهة بالآتي: أفراد العائلة يتجادلون حول توزيع الغرف والأَسِرَّة، فيما يغيب أحدهم عن هذا الجدال، لإنشغاله بنزاع مع الجيران حول تقاسم الأرزاق بينه وبينهم. وعندما يحسم النزاع، سيعود ويرسم مصير الجميع، ويوزِّع عليهم الحصص ويستريح ويريحهم!

قبل الفراغ الرئاسي كان يقال: لن تكون إنتخاباتٌ في لبنان قبل أن تأتي الإنتخابات السورية بالرئيس بشار الأسد إلى ولاية جديدة. وهذا ما حصل. واليوم، ربما لا تكون الإنتخابات في لبنان قبل عودة نوري المالكي إلى ولاية جديدة. وبعد ذلك، ستكون إنتظارات أخرى... إلى أن تحين اللحظة المناسبة.

وهذه اللحظة مرهونة لا بالمجريات السياسية والدستورية، بل بخرائط البارود والرصاص والدم المهدور على الأرض، من جرود عرسال- القلمون، إلى الموصل وبغداد، مروراً بدرعا وريف حلب والرقّة. أما غزة، فهي التتويج الحقيقي لسيلان الدم العربي.

من الذكاء أَلاَّ ينخدع أحدٌ ولا يَخدَع أحداً. لن يُفرج «حزب الله» عن أيّ إستحقاق، ولن يتخلّى عن أيّ عنصر يمكن أن يساوم عليه في المعركة الكبرى. والمعركة الجارية اليوم في عرسال- القلمون- جرود الهرمل حاسمة في هذا الإتجاه. وكذلك، المعركة التي يتوعَّد الرئيس بشّار الأسد بخوضها لترسيخ منطقة نفوذه الحالية، بإطفاء البؤر التي تخترقها، وربما توسيعها من الجهتين الجنوبية والشرقية. وترتبط هذه المعركة عضوياً بما يجري في العراق.

فـ«حزب الله» جعل لبنان وسوريا ساحة لمعركة واحدة. أما «داعش» فجعلت سوريا والعراق ساحة لمعركة واحدة. وفي الإستنتاج، يمكن إعتبار لبنان وسوريا والعراق (وربما دول أخرى لاحقاً) ساحة لمعركة واحدة.

في سوريا، يستقرُّ نفوذ الأسد على المنطقة الحيوية. ولا أفق لمحاولات إسقاطه. لكن ما يجري في العراق هو الذي سيطلق المسار لتغيير الشرق الأوسط، بعد تحضير الأرضية في سوريا. فهناك بدأ المسار عام 2003، ومنه يبدأ التنفيذ.

وإذ يتمّ جلاء المسيحيّين عن بابل، وسَبْيُهم، يبدو المشهد وكأنّه إستعادة لمشاهد الإنهيارات التاريخية الكبرى، السابقة للكيان العراقي، أي لـ«سفر برلك» وما قبلها بمئات السنين. ويحلُّ الكلدان والآشوريون لاجئين على الأكراد، مواطنيهم السابقين، الذين أقاموا الحصانة في جبالهم لئلّا يتحوّلوا هم أيضاً لاجئين خارج أرضهم.

وتحاول إيران إستعادة العراق لنفوذ المالكي. وهي لذلك سهَّلت إنتخاب رئيس للبرلمان من معتدلي السنّة، وتعمل مع الولايات المتحدة على تأطير العشائر و»الصحوات» السابقة لتستعيد المناطق التي سيطرت عليها «داعش». لكنّ المالكي لن يستعيد العراق كاملاً، لأنّ السنَّة سيُواجهونه هناك، كما يواجهون الأسد في سوريا. وفي النهاية، سيرضَخ عموم السنّة لخلافة «داعش» وأخواتها، كأهون الشرّين، بدلاً من الرضوخ لولاية الفقيه.

لذلك، ستختار إيران الإحتفاظ بنفوذها على شيعة العراق، إذا فشلت في إستعادة العراق كاملاً. وهذه المعادلة يطبّقها الأسد أيضاً في سوريا. أمّا في لبنان، فينشغل «حزب الله» بالمعارك الكبرى، ولاسيما تلك التي تدور في القرى الشيعية والسنّية، ضمن البقعة الواحدة في القلمون وجرود الهرمل، من دون أيّ أثر للحدود الدولية.

ومن هناك إلى بغداد، يبدأ مصير «حزب الله» وينتهي. وهناك يبدأ وينتهي تفكيره بالإنتخابات الرئاسية والنيابية وسائر التفاصيل اللبنانية «السخيفة».