الدولة اللبنانية معطّلة ومؤسساتها الدستورية مشلولة. فرئاسة الجمهورية فارغة بسبب عجز زعماء الشعوب اللبنانية عن الاتفاق على من يملؤها جراء تمسك غالبيتهم بالمصالح الفئوية والخاصة، وجراء انتظار توجيهات الخارج. والانتظار سيطول لأن الخارج المتصارع هذا يحاول كل من أطرافه الانتصار على الآخرين، ولم يصل إلى الاقتناع باعتماد التسوية التي تحتاج إلى تنازلات متبادلة. وربما لأنه لا يزال في حاجة إلى "حلفائه" اللبنانيين كي يتمكن من تحقيق أهدافه سواء بالتقاتل أو بالتسوية.
ومجلس النواب معطَّل بدوره بسبب سياسة العضّ على الأصابع التي يمارسها الفريقان الأكبر فيه 8 و14 آذار. فالأول يحول دون اجتماعه وبنصاب دستوري لملء الفراغ الرئاسي لأن مرشحه غير المعلن رسمياً للرئاسة ليس مقبولاً من الثاني، ولأنه لا يمتلك الأكثرية اللازمة أولاً لتأمين نصاب الجلسة، وثانياً لتمكين هذا المرشح من تحقيق حلمه الذي تحوَّل هاجساً. والثاني يحول دون انعقاد المجلس لدرس المشروعات الملحة التي أثارت المماطلة في بتها خضات اجتماعية وسياسية عدة، والتي بدأت تشلّ إدارات الدولة وتخرِّب مستقبل الطلاب. وأسباب موقفه معروفة. بعضها له علاقة بـ"الحرص" على الاقتصاد ومالية الدولة والقطاعات الاقتصادية. وبعضها الآخر له علاقة بالصراع المزمن الدائر. ولعل السبب الأبرز للشلل المجلسي هو استعمال العمل النيابي لتصفية الحسابات بين 8 و14 آذار اللذين يحاول كل منهما أن يقنع الناس وخصوصاً جمهوره أن مسؤولية مآسيهم يتحملها الآخر. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن الفريق الأول حقق نجاحاً وإن موقتاً أكثر من الثاني. ولعل أبرز دليل على تصفية الحسابات، وعلى عدم رغبة الفريقين في تسوية جدية للخلافات الممكن تسويتها من دون أن تعرّض "مبادئهما واستراتيجيتيهما وايديولوجيتيهما وارتباطاتهما الخارجية" للخطر، لعل أبرز دليل هو اشتباكهما حول طريقة صرف الرواتب والإنفاق. فوزير المال علي حسن خليل يرفض حل هذه المشكلة إلا بواسطة تشريع نيابي وهو محق في ذلك. وفريق 14 آذار يريد استمرار طريقة الصرف التي استعملت في السنوات العشر الماضية. وهو أيضاً محقّ. الأول محق لأن القانون ينص على ذلك. لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو لماذا وافق الفريق الذي يمثله خليل على الصرف غير القانوني طيلة سنوات وصار اليوم يرفضه. والثاني محق لأنه يظن أن الإصرار على "قوننة" الصرف هو جزء من خطة مواجهة معه اسبابها أعمق وأبعد من التمسك بالقانون.
أما الحكومة التي استغرق تأليفها من الرئيس تمام سلام نحو 11 شهراً من الصبر على المناورات والتسويف والوعود والتشدُّد والمطالب المتناقضة، ومن الصبر أيضاً على المداخلات التعطيلية للخارج، أما هذه الحكومة فإن كثيرين من اللبنانيين يخشون أن يصيبها التعطيل بعد البداية الناجحة لعملها في أواخر ولاية الرئيس ميشال سليمان. فرئيسها قرر أخيراً عدم دعوة مجلس الوزراء إلى الانعقاد لأن فشله المحتم في إنجاز أي شيء في ضوء الخلافات المستحكمة بين مكوناته، وهي مكونات مجلس النواب أيضاً، وخصوصاً إذا تكرّر سيعني تحوّله جسماً مُعطَّلاً. وبذلك تصبح الدولة مُعطَّلة كلها. طبعاً يلوم البعض الرئيس سلام للقرار المشار إليه اعتقاداً منه أن ذلك يلحق الضرر بالسلطة التنفيذية المناطة بالحكومة ومجلس وزرائها. لكنه وآخرون لا يوافقون على ذلك وهم محقون. فهو يمارس صلاحياته التنفيذية إذا دعا إلى الجلسة وإذا امتنع عن ذلك، وإذا امتنع أيضاً عن وضع جدول أعمال، وذلك كله من صلاحياته. وهدفه إيقاظ الجميع ودفعهم إلى ممارسة الحد الأدنى من التوافق حفاظاً على البلاد واستقرارها الهش. أما إذا لم يأت ذلك يأتي بنتيجة فإنه سيتحرك. وقد تكون إحدى خطواته التخلي عن عدم التصويت في مجلس الوزراء، ذلك أنه عندما قرره مع أعضاء حكومته قصد به عدم التصويت على القضايا الميثاقية بل التوافق عليها. أما القضايا الأخرى العادية وإن مهمة والتي تمس حياة الناس والمواطنين فلتذهب إلى التصويت.
في اختصار ما يقوله الرئيس سلام حالياً هو أن الجهات الإقليمية والدولية المعنية بلبنان والمتورطة فيه أيضاً قررت منفردة أن مصلحتها محافظة حكومته ومسؤوليه وشعوبه على استقرار الحد الأدنى الحالي. لكنها ليست "فاضية" لأخذ كل هؤلاء من يدهم إلى "طائف" ما أو أي "دوحة" ما، من أجل "حملهم" على الاتفاق. فالمشكلات التي تواجهها كثيرة وكبيرة. فإذا أرادوا الاتفاق تساعدهم. أما إذا أرادوا الانتحار فلن تمنعهم. فهل يعون هذه الحقيقة؟