يقول سياسيّ واسع الخبرة إنّ كثيراً من السياسيّين اللبنانيين يهملون حكمةً مأثورة شائعة تقول: «مَنْ صَبَرَ ظَفَرْ ومَنْ لَجَّ كَفَرْ»...

وينطلق هذا السياسي من هذه الحكمة ليؤكّد أنّه كان على رئيس تكتّل «التغيير والإصلاح» النائب ميشال عون «أن يصبر قليلاً بعدما صبَر أشهراً، قبل إعلان مبادرته الدستورية التي تفوح منها رائحة الانزعاج السياسي أكثر ممّا تحمل نيّات إصلاحية دستورية».

ويضيف أنّ عون لم يُفصح يوماً، لا في برامجه، ولا حتى في مقابلاته وخطبِه عن روح هذه المبادرة «الانقلابية» مثلما وصفَها الرئيس نجيب ميقاتي.

فعلى الرغم من أنّ فكرة انتخاب رئيس الجمهورية من الشعب هي فكرة إصلاحية بامتياز، وقد طرحَتها شخصيات وتجمّعات وقوى سياسية منذ عقود، أي قبل الحرب وبعدها، فإنّ شيئاً من هذا الكلام، أو بعضه، لم يظهر أبداً في أدبيّات عون وتكتّل «التغيير والإصلاح».

ولذلك يرى السياسي نفسُه أنّ الأمر مرتبط بوصول الحوار بين عون وتيار «المستقبل» إلى ما يشبه الطريق المسدود، بل إنّ لدى عون معلومات تفيد أنّ القرار في المملكة العربية السعودية تحديداً لم يكن في مصلحة انتخابه رئيساً للجمهورية.

ويعتقد السياسيّ أنّ مصدر التشدّد السعودي في وجه عون مرَدُّه إلى تشدّد إيراني في العراق بالتمسّك بنوري المالكي رئيساً للحكومة العراقية. عِلماً أنّ الرياض تؤكّد دوماً أنّ الاستحقاق الرئاسي اللبناني شأنٌ داخليّ، على اللبنانيّين أن ينجزوه، وأنّها ليس لديها مرشّحون ولا تدعم أيّ مرشّح ضدّ مرشّح آخر.

غير أنّ هذا السياسي يقول إنّه كان على عون أن يصبر قليلاً، فما زالت الأوراق «مخلوطة» بالنسبة إلى انتخابات رئاسة الجمهورية، وإنّه في ظلّ المعطيات الراهنة من الصعب أن يتبيّن الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وبالتالي فقد كان عليه أن يعطي نفسَه فرصةً أكبر قبل أن يدلي بدلوِه الأخير الذي سمّاه «مبادرة إنقاذ». ويضيف أنّ مبادرةَ عون أحرجَت كثيرين من حلفائه، فالعلمانيّون منهم، وإن كانوا يؤيّدون فكرة الانتخاب المباشَر للرئيس من الشعب، فهم لا يمكنهم قبول فكرة تأهيل المرشّح الرئاسي في جولة انتخابية أولى لا يشارك فيها إلّا المسيحيّون.

أمّا حلفاء عون الآخرون فهم أيضاً محرَجون في توقيت المبادرة ومضمونها في آن، فالتوقيت بالنسبة إليهم هو توقيت تهدئة الساحة الداخلية، لا إثارة خلافات جديدة فيها، وهؤلاء الحلفاء قد قبلوا بأمور عدّة كتركيبة الحكومة الحاليّة بما فيها من صقور «مستقبلية»، وذلك حفاظاً على التهدئة. كما أنّ هؤلاء قد باركوا لقاءات «التيار الوطني الحر» مع تيار»المستقبل»، التي تنعكس إيجاباً على الجوّ السياسي العام في البلاد، خصوصاً أنّ الجميع مدركون حجمَ المخاطر التي تهدّد المنطقة عموماً، ولبنان خصوصاً.

أمّا من ناحية المضمون، فلقد فاجَأ عون حلفاءَه، فلم يدرس معهم أمراً بهذه الخطورة يتعلق بتعديل جَذريّ للنظام السياسي في لبنان ويحوّله من نظام جمهوري ديموقراطي برلماني إلى نظام رئاسي ينسف كلّ ما ناله مجلس الوزراء مجتمعاً من صلاحيات تنفيذية كاملة نتيجة الدستور المنبثق من «اتّفاق الطائف».

ويضيف هذا السياسيّ أنّ مبادرة عون «الإنقاذية» تحمل في طيّاتها روحَ فدراليةٍ معيّنة يمكن تسميتها فدرالية إنتخابية، بحيث يتمّ الاعتراف بكلّ طائفة لبنانية كمُكوِّن سياسيّ في المجتمع قد يصبح فيما بعد مشروع كيانٍ فدراليّ كامل، وهو أمر لا يخالف اتّفاقَ الطائف وحدَه، بل يخالف الدستور اللبناني منذ الاستقلال.

فلقد نصَّ الدستور آنذاك على أنّ الطائفية السياسية هي صيغة مؤقّتة ينبغي الخروج منها، فيما دعا الدستور المنبثق من «اتّفاق الطائف» إلى تأليف هيئة وطنية لإلغاء هذه الطائفية السياسية، فإذ بمبادرة عون، بشقّيها الرئاسي والنيابي، تُسقِط من علاقات اللبنانيين كلَّ ما نصَّت عليه دساتيرهم.

ويعتقد السياسي نفسُه أنّ في هذه المبادرة العونية خروجاً عن تفاهم 6 شباط 2006 بين عون وحزب الله، وأنّ الأَولى به كان أن يتشاور مع شريكه الذي وقفَ معه حتى جلسة الانتخابات الرئاسية التي لم تنعقد أمس، فإذ به يُفَاجَأ بمبادرةٍ من طرف واحد وبلا تشاور.

ولكنّ أخطر ما في المبادرة العونية، حسب السياسي الخبير، أنّها تأتي في مناخ عربي وإقليمي يسعى إلى تعميم فكرة الفدراليات أو التقسيم في غير بلد عربي، حيث يتذكّر الجميع أنّه في مثل هذه الأيام قبل ثلاث سنوات أعلن جنوب السودان انفصالَه عن السودان الأُمّ، وفي مثل هذه الأيام أيضاً بالذات أعلنَ مسعود البرزاني نيتَه إجراء استفتاء لإعلان انفصال إقليم كردستان عن العراق، بعدما سيطرَت قوّاته على مدينة كركوك الغنية بالنفط.

وبالإضافة الى السودان والعراق هناك مطالبات بالانفصال في اليمن وبالفدرالية في ليبيا وبقيام إمارات في سوريا، ويُخَطَّط لتقسيمات عدّة في دوَل عربية تتحدّث عنها تقارير ودراسات أعدَّتها مراكز أبحاث أميركية وغربية.

ويرى السياسي الخبير نفسُه أنّ هناك من زيَّن لعون الانزلاق في هذه المبادرة عبر الإيحاء له أنّها تأتي في زمن الفدراليات والكونفدراليات العربية، وأنّها ستجد دعماً لدى قوى كبرى ولدى قوى إقليمية أيضاً.

غير أنّ مثل هذا الرهان قد يكون خاسراً إلى حدّ كبير، فلا تجربة التقسيم في السودان كانت ناجحة في جنوبه حتى الآن، ولا مطالب الفدرالية في ليبيا حازَت على تأييد الليبيّين، ولا شعارات الانفصال في جنوب اليمن طغَت على مخارج الحوار الوطني اليمني الذي انتهى قبل أسابيع، وحتى الإمارات التي يئنُّ منها الشمال والشرق في سوريا، تسقط الواحدةُ منها تِلو الأخرى، أو ستسقط أمام تقدّم الجيش السوري في الميدان، أو تتلاشى أمام زحف «الخلافة» الداعشية التي أعلنَها قبل أيّام أبو بكر البغدادي ليُدخِل نفسَه وتنظيمَه في معارك جديدة مع قوى قد تشاركُه العقيدة والمذهب لكنّها لا تقبل به «خليفة» للمسلمين.