وسّع الدكتور سمير جعجع مروحةَ الخيارات الرئاسية أمام خصومه، فطرح مبادرةً رباعية قائمة على الآتي: أن يحسم مجلس النواب المعركة لصالحه أو لصالح العماد ميشال عون أو لمصلحة الإسمين اللذين يتم التفاهم عليهما مع 8 آذار، مؤكداً الإنفتاح على أيّ اقتراح «يتلاءم مع قناعتنا»، والموافقة على لائحة بكركي.الجديد العملي في المبادرة الأخيرة للدكتور جعجع تأييده وصول أحد المرشحين الثلاثة: زياد بارود، دميانوس قطار وروجيه ديب، أو ايّ إسم خارج 8 و14 آذار، وقد أظهر جعجع مجدّداً عبر هذه المبادرة أنه منفتح على المسارات التي توصل إلى انتخاب رئيسٍ للجمهورية، خصوصاً أنها جاءت بعد أن كان أعلن تأييده وصول الرئيس أمين الجميل أو النائب بطرس حرب.

وتوسيع مروحة الخيارات يعني زيادة الضغط على عون عبر تسليط الضوء على تعطيله المتمادي للانتخابات الرئاسية برفضه كل الخيارات والطروحات والأفكار وإصراره على معادلة شخصه أو الفراغ، الأمر الذي يضيّق هامش المناورة لدى عون ويفتح الباب أمام كسر حلقة المراوحة القائمة.

ومجرّد طرح هذه المبادرة يعني أنّ جعجع انتقل من مرحلة إلى أخرى، أي من مرحلة دعم وصول مرشح من 14 آذار إلى مرحلة تأييد وصول مرشح وسطي أو من خارج الاصطفافات، ما يعني أنّ أمام استحالة وصول مرشح من الحركة الاستقلالية، بالنسبة إلى جعجع، كان لا بدّ من تحريك الجمود الرئاسي بهدفٍ مزدوج: تعرية عون وتقصير مرحلة الفراغ.

ولكنّ السؤال الذي يطرح نفسه: هل استنفدت حملة ترشيح جعجع أغراضها لينتقل إلى خطوة أو مرحلة جديدة؟ بالتأكيد كلا، فهو لم يكن مضطراً إلى خفض السقف التفاوضي، ولا سيما أنّ الطرف المعطل ليس «القوات» ولا 14 آذار، إنما فريق 8 آذار الذي يرفض تأمين النصاب إلّا في حالة واحدة: انتخاب عون رئيساً، فيما كان بإمكان رئيس «القوات» أن يبقى متمسكاً بمسألة مبدئية أساسية، وهي جرّ البرلمان إلى انتخابه أو انتخاب عون، أو انتخاب الجميل أو حرب بطبيعة الحال، فيما هو كان ساهم بفتح الخيارات ولا حاجة في هذه اللحظة إلى مبادرات جديدة.

ويعلم الدكتور جعجع تمام العلم أنّ مبادرته وُلدت ميتة للسبب المعلوم المتصل برفض عون المفاوضة على أيّ إسم غيره، وبالتالي ليس من مصلحته إطلاق مبادرة من هذا النوع حتى لو كانت ستؤدّي إلى حشر عون سياسياً وشعبياً وإعلامياً، فضلاً عن أنّ الأخير لا يأبه لهذا النوع من الضغوط.

فمن مصلحة جعجع التمسك بترشيحه وترشيح الجميل وحرب، لأنه عبر هذا التمسك يقطع الطريق أمام أيّ تهريبة رئاسية أو تسوية يدخل فيها «المستقبل»، لو افترضنا ذلك، على حساب مسيحيّي 14 آذار، باعتبار أنّ «المستقبل» لا يتحمل الدخول في تسوية من هذا النوع، وقد أثبتت التطورات أنّ انفتاحه على عون بقي دون السقف الرئاسي، فيما فتح الباب أمام خيارات جديدة من خارج الحركة الاستقلالية يشرّع الباب أمام تسويات من أيّ نوع.

والكلّ يعلم أنّ 14 آذار ليست في أفضل أحوالها، وبالتالي طرح مرشحين من خارج صفوفها يجعل مكوّناتها تتنصل من الالتزام الأدبي بين بعضها البعض، هذا الالتزام الذي يبقيها موحّدة ومتماسكة، فيما الذهاب نحو خيارات جديدة يجعل كلّ طرف يغني على ليلاه مبرراً لنفسه ما يبرره جعجع لنفسه، وبالتالي الترشيح الـ14 آذاري وظيفته مزدوجة:

أولاً، إبقاء 14 آذار موحدة ومتماسكة، لأنّ أيّ مكوّن لا يستطيع تحمل مسؤولية انفراط عقد هذه الحركة، باعتبار أنّ تبدية مرشح من خارج صفوفها من دون موافقة طرفها المسيحي يعني تفككها ونهايتها.

ثانياً، ليس المقصود الانتقاص من أيّ مرشح وسطي له كل الحق في خوض معركته الرئاسية، إنما المقصود الذهاب إلى النهاية في معركة وطنية بين خيارين ومشروعين لم تصل بعد إلى حدها الأقصى، ولا بل بدأت تأتي ثمارها مع ارتفاع لهجة البطريرك بشارة الراعي وتركيزه على الفريق المعطل، خصوصاً بعد تردي العلاقة بين الطرفين على أثر زيارته للأراضي المقدسة.


فالفرصة كانت ما زالت متاحة لمواصلة المعركة الرئاسية تحت عنوانين: المسيحي التمثيلي والوطني السيادي، وتحميل عون في اللحظة المؤاتية مسؤولية تضييع هذه الفرصة على المسيحيين، بدلاً من إطلاق مبادرة إنقاذية للاستحقاق الرئاسي في خطوة إعلامية غير قابلة للترجمة السياسية، فضلاً عن أنّ مَن قال إنّ خيار التمسك بأن يكون البرلمان هو الفصل بين جعجع وعون استنفد أغراضه؟ إنما على العكس كان يُفترض الذهاب نحو النهاية في هذه المعركة التي وحدها تعيد المسيحيين إلى قلب المعادلة الوطنية.

وفي هذا السياق لا بدّ من أخذ العبرة من تجربة تكليف سلام والحكومة السلامية، إذ لولا إصرار «المستقبل» على رفض أيّ خيار رمادي، لما تمت تسمية سلام، ولو وافق «المستقبل» على المعادلة التي أكد «حزب الله» بأنها تشكل الفرصة الأخيرة ولا عودة عنها، أي 9+9+9 وجيش وشعب ومقاومة، لما كانت نجحت 14 آذار الحكومية بانتزاع كمّ كبير من التنازلات، على رغم أنّ ذلك لا يبدل في طبيعة الموقف من الحكومة وخطيئة المشاركة مع «حزب الله» في حكومة واحدة.

ويبقى أنّ الأيام وحدها كفيلة بتبيان الأسباب الموجبة لمبادرة جعجع، فيما إذا كان الهدف منها تعرية عون فقط، أم قطع الطريق على إيصاله عن طريق تقديم التنازلات في ظلّ معلومات لدى رئيس «القوات» أنّ الأمور تسلك هذا الاتجاه، وأو أن يكون جزءاً أساسياً من أيّ تسوية رئاسية بإعطاء إشارة إلى أنّ القرار الرئاسي داخل 14 آذار عائد إليه، فضلاً عن مغازلة بكركي بتأييد مرشح من المرشحين القريبين منها.