الزيارة البابوية إلى عمّان، ورام الله، والقدس، سياسيّة بامتياز، إستنبشَت التاريخ، وتمحّصت بالجغرافيا بحثاً عن حاضر الأماكن المقدّسة، وحضورها، ومصيرها.

هناك خريطة طريق تُرسم للفلسطينيّين والإسرائيليّين، جاء الفاتيكان يُحدّد الأماكن والمواقع على جغرافية التسوية المحتملة، والدولتين والمصيرين والمسارين، غير آبهٍ بالجدار العازل، فالسياسات قد تفعل فعلها في الجغرافيا، توسّع حدوداً، تضيّق أخرى، لكنّها لا تستطيع طمس التاريخ. إنّه الركيزة والأساس، والحضور المسيحي المشرقي أساسي بثقافته بحضارته بتنوّعه وإنفتاحه، هكذا كان، وهكذا سيبقى.

تشمل خريطة الطريق لبنان، نصف مليون لاجئ فلسطيني ينتظرون حقّ العودة، مليون ونصف المليون نازح سوري يطالبون بالحدّ الأدنى من رمَق الحياة، وإذا ما أضيفت إليهم الأيدي العاملة الوافدة، وأرتال النازحين من الدول الفقيرة أو المنكوبة إرتفع العدد ليبلغ مليونين ونصف المليون طارئ، أي أكثر من نصف سكّان لبنان، فيما الإرشاد الرسولي يبقى عاقراً، لم يُنتج الديناميّة المطلوبة، وبقي وضع المسيحييّن متأرجحاً ما بين الإنكفاء والهجرة.

كان الحديث عن الإستحقاق، فأصبح عن الفراغ، وبدأ ينزلق نحو الميثاقيّة. كان منشغلاً بتوصيف الديموقراطيّة الحيّة، فيما ينشغل الآن بكشف عوراتها. قبل أيام قليلة كان الصوت والصورة يتابعان رئيساً يغادر بأبّهة، ووسط مراسم إحتفالية في منطقة لا تشغر فيها المناصب الرفيعة إلّا عن طريق الوفاة، أو القتل، أو الإنقلابات. بعد أيام قليلة أصبح الصوت والصورة في مكان الحدث لتوصيف الميثاقيّة، ومعاييرها عند إنعقاد جلسة لمجلس الوزراء، أو للمجلس النيابي. كان الاهتمام مُنصبّاً على الإستحقاق، تدرَّج إلى الفراغ، ويتدرّج الآن نحو الميثاقيّة.

إنّها محاولة للعبَث بالتاريخ والتمحّص بالجغرافيا. إحتفى الآباء المؤسّسون بلبنان الميثاق قبل التفاهم على الدستور. كان الدستور دائماً مكمّلاً أو حاجة إضافيّة في حياة اللبنانيين، لأنّ الأساس كان الميثاق، وقد اختصروه بأربعينات القرن الماضي بعبارة «لبنان ذو وجه عربي»، هذه الصيغة لم يستهضمها السُنّة بعد بروز القضيّة الفلسطينيّة، وحركة الضبّاط الأحرار في مصر، وصعود نجم الناصريّة، والذهاب إلى الوحدة مع سوريا، وبلوغ الثورة الفلسطينيّة ذروة قوّتها، وعنفوانها، وصعود الثروة النفطيّة في الخليج بسرعة قياسيّة، كلّ ذلك حوَّل لبنان إلى بركان، لينفجر في ما بعد ويؤدي انفجاره إلى اتّفاق الطائف.

الطائف بدّلَ في الميثاق، ونزَع عن وجه لبنان البرقع، وكرَّسه عربيّاً، في وقتٍ بدأ فيه العالم العربي مرحلة التراجع والإنحدار، نظراً إلى النزاعات العنيفة ما بين دوله، وفي داخل كلّ منها، وأيضاً لعجز جامعة الدول العربيّة على وضع قراراتها موضع الفعل إن لجهة ما يتعلق بالقضية الفلسطينيّة أو غيرها من القضايا الأخرى.

غيّرَ الطائف بالميثاق، فانتزَع صلاحيات واسعة من الرئيس المسيحي، وجيَّرها لمصلحة رئيس الوزراء السُنّي تحت عنوان «لمصلحة مجلس الوزراء مجتمعاً». أمّا التبرير الفَوقي فكان أنّ الطائف قد أنهى الحرب التي وَضعت المسيحيين في الموقع الخاسر، لا بل المهزوم، ومن ينهزم عليه القبول بشروط التسوية، حتى ولو كانت غير متكافئة.

بزَغ نجم الإمام المغيّب موسى الصدر، فاستنهضَ الحال الشيعيّة في لبنان، ورفع «حزب الله: من منسوب هذا الاستنهاض حتى أوصلَ اللبنانيين إلى اتّفاق الدوحة، وكان من مفاعيل هذا الاتّفاق شراكة شيعيّة - سُنّية في صياغة الميثاق على حساب المسيحيّين، وإذا كان اتّفاق الطائف قد قلّص صلاحيات رئيس الجمهوريّة، فإنّ اتّفاق الدوحة قد ألغى دورَه.

يزداد قلق الفاتيكان على الدور والموقع، وأيضاً على الصيغة والميثاق. الإرشاد الرسولي لم ينتج حالة تغييريّة فاعلة ومؤثّرة. مجموعة الدعم الدوليّة قالت كلمتها في البيان الذي وزّعه ممثّل الأمين العام للأمم المتحدة في لبنان ديريك بلامبلي «إستحقاقكم لا يحتلّ الأولوية في جدول أعمالنا».

«حزب الله» لم يراوغ، يريد الرئيس، لا بل يريد لبنان في خدمة أولوياته السوريّة - الإقليميّة - الدوليّة. الفراغ يمشي ملكاً، والمسيحيّون يخوضون آخر مغامراتهم المجنونة مع الميثاقيّة. إذا كانت إيران هي الحاضنة الفعليّة للإستفاقة الشيعيّة، والسعودية الحاضنة الفعليّة للحالة السُنّية النهمة، فمَن هي الحاضنة الفعليّة للمسيحيّين، وهل تكفيهم صلوات الفاتيكان؟