بينما كان الحاكم جالساً في قصره الأحمر، المحصَّن بأسوارٍ غطِّيت بالمرمر،معظمها مبنيٌّ من الخزف والحصباء ،وهو مشغولٌ بحسابه وأمره وقد احتجب جهده..فأعلن أمام حاشيته الممتثلة بالقضاة والأزلام ، تخليه عن السلطة والحكم ،وبتزويج إبنته لمن يصنع له بِسَاطاً طوله مائة قدم ، وعرضه كذلك.  وارتفاعه بحيث يمرُّ به القاضي بعمامته فلا يَرى ولا يُرى...بمدة مضروبة قوامها عشرة أيام ، وإلاَّ تضرب الأعناق..فوفد الطامعون والطالبون لها طمعاً وطلباً فلم تكن العاقبة سوى الموت المحتَّم...مواطنٌ مفلسٌ ينادونه أبناء مرج البلد (فَلَسَنجي) يضرب أوتار عودٍ في مقهى يسري إليه ليلاً ليخفف من أوجاعه وآلامه في بلدٍ يسود فيه الآكل والمأكول ، والسيد والمسود ، والرئيس والمرؤوس..يسود فيه الفقر والجوع ، وتُحاك فيه الإتهامات يمناً ويسراً...لأنه مواطنٌ أعزل لا يحمل سلاحاً ولا يحسن استعماله ، لأنَّ الحاكم قد جرَّده من سلاحه ،واشترى لنفسه أرقَّاء مسلحين...وبدأ يسرد حكاية من حكايات جحا أنه حمل أوزَّة مشويَّة إلى الحاكم ، وغلبه الجوع ، فأكل إحدى رجليها في الطريق ، وعندما سأله الحاكم عنها زعم له أنَّ الأوز كله خلقه الله برجل واحدة في دولتكم..ثم أشار إلى سرب الأوز في حديقة الحاكم ، وكان الأوز قائماً على قدمٍ واحدة ، كعادته وقت الراحة..نادى الحاكم جندياً من حرسه ، وأمره أن يهجم على سرب الأوز بعصاه ، فما كاد يفعل حتى أسرع الأوز يعدو على قدميه..ثم قال الحاكم  لجحا هل رأيت الآن سرب الأوز عندنا خلقه الله بقدمين وليس بقدم واحدة؟ فقال :جحا مهلاً أيها الحاكم فلو هجم حارسك على إنسان بهذه العصا لجرى الإنسان نفسه على أربع......فحرس الحاكم الخاص لا يطارد الأوز بل يطارد الناس ، ولا يغيِّر طبيعة الطيور بل يغيِّر طبيعة البشر ، لأنه يقهرهم بسلاح القوة ويوهمهم بأنَّ الحقيقة عنده وأنتم لا تعرفونها. هي منشورات سياسية ضد الدولة وضد المؤسسات الدينية...فقرَّر الفلسنجي أن يخيط بِسَاط الحاكم وبدأ يسرد له مقدرته على خياطة ذلك البساط ، ولكن يا سيادة الحاكم لخياطته شرطٌ وهو من لم يره يكن (بندقاً) فلا يراه إلاَّ ابن حلال...عاد الفلسنجي إلى المقهى كعادته ولم يأبه لذلك حتى إنتهت المدة المضروبة... فأتوا به إلى الحاكم ، وعندما سأله عن خياطة البساط فقال: انه موجود في مرج البلد! فأمر الحاكم الحاشية والقضاة لمراقفته إلى المرج ، فقال له القاضي أين هو؟ فهمس الفلسنجي في أذنه وهل أنت بندقاً..حينها قال القاضي إنني أراه....وعادوا وأخبروا الحاكم بوجود ذاك البساط ..فذهبوا جميعاً ليروه وعندما سأل الحاكم أين هو..همس القاضي في أذنه وهل أنت يا مولانا الحاكم بندقاً...وهكذا نعيش أسارى تشخيص االحاكم في حكمه وسياسته وسياسة البلاد والعباد ن بأنَّ المصلحة لا يدركها غيره ، والمؤسسة الدينية تعتبرها ثقافة الآخرة بديلاً عن الدنيا ، ومن لا يرى ذلك يكون بندقاً........الشيخ عباس حايك