بادئ بدء أقدم لكلامي التالي عن ضرورة التمييز في عمل رجال الدين بين الاحتراف السياسي وإعمال الفكرة في السياسة وحتى لا يصادرن احد عليّ فأقول: "اني عضو مؤسس في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني الذي استطاع على مدى عشر سنين ان يوسع المشتركات الوطنية بين الافراد المتابعين له وفيه من دون ان يصل، ولا يريد ان يصل، ولا يمكن ان يصل الى الغاء الاختلاف، مما يعني انه لم يتحول ولن يتحول الى حزب، كما يعني انه لن يتصدع، حتى لو تفارق الناشطون فيه في محطة او اكثر من الخلاف على امور وطنية، لأنهم سرعان ما يعودون الى حالهم من الحوار. 

كما اني عضو مؤسس في الفريق العربي للحوار الاسلامي - المسيحي. وهو في كل نشاطاته ونوعية المشاركين فيه من العرب واللبنانيين فوق الشبهات. ولا اريد ان اطيل فالامر معروف لدى القاصي والداني، من اهل السلطة او عموم الطبقات السياسية، في جميع الاقطار العربية والاسلامية، التي تسهل للفريق عمله من دون ان تملي عليه شيئاً... وميزته، كما هي ميزة المؤتمر الدائم، انه جامع لانتماءات وحساسيات وتجارب مختلفة ومتفقة على التواصل بلا تعجل او تسرع، وان كان الجميع في الفريقين تقريباً لا يتنصلون من متحداتهم الدينية والطائفية، مصرين على قبول الآخر كما هو، فانهم لا يضعون انفسهم خارج السياسة في المطلق، الا انهم ألزموا انفسهم انتاج فكر سياسي حواري على منهجية تمر بالسياسة دون ان تنحصر فيها. مع علمهم بأن عدداً منهم تحضر صفتهم السياسية اولاً او مع صفتهم الفكرية والثقافية الموازية او المساوية لصفتهم السياسية. 

ومن علامات هذه المنهجية ان الفريق العربي بادر قبل عام وشهرين تقريباً الى الدعوة لمؤتمر عقد في سويسرا ضم عدداً من اهل السياسة والفكر السياسي من مواقع مختلفة، وكانت في الماضي متقابلة، ايماناً من الفريق بضرورة لقاء المختلفين لانتاج مضادات حيوية على موجبات ايمانية وأخلاقية، تمنع من رفع الخلاف الى مستوى التناقض تجنباً للعنف المتبادل وترسيخاً للسلم الاهلي اللبناني من دون اختزال من قبل احد لأحد. وهكذا تشكل اللقاء اللبناني للحوار من افراد ناشطين في المؤتمر الدائم للحوار اللبناني، والفريق العربي للحوار، واللجنة الوطنية للحوار، و"قرنة شهوان"، وتيار الرئيس الحريري، وأصدقاء للعهد، وحركة "امل" و"حزب الله" وحركة "التجدد الديموقراطي"، وبعض ممثلي التيار العقلاني والواقعي في "القوات اللبنانية" و"الوطنيين الاحرار"، و"الكتلة الوطنية"، وعدد في الكفاءات الجامعية والشخصيات ذات الاهتمام الجاد بالشأن العام. 

اقول هذا الكلام لأقول بأن تجربتي التي ذهبت طولاً وعرضاً وعمقاً في الحركة السياسية، من دون تحزب في الماضي. لم تستطع ان تستغرقني لتغرقني في الشأن السياسي، اي لم تصل بين الى حد الاحتراف. 

وكنت بين حدث وآخر، او بين حركة وأخرى، بين محترَف ومحترِف، اعود الى مساءلة نفسي عن المائز او الخط الفاصل، بين الاحتراف السياسي وبين دور رجل الدين او العالِم او المثقف او الاديب في السياسة، فأعتصم كثيراً في كوني رجل دين، فيعصمني ذلك من كثير من الاخطاء والمغامرات والمخاطرات والمغامرات برمزيتي الدينية التي كادت اكثر من مرة ان تفلت مني او افلت منها، ولكن استيقاظي على خصوصيتي الدينية بمضمونها الفكري والاجتماعي سرعان ما كانت تعيدني الى الطريق الاكثر رحابة والأقل عثرة. 

على ان طموحي من خلال انعطافي او ميلي الشديد الى التخلص من اغراءات واملاءات الاحتراف السياسي والعصبيات التي ينتجها على غير ما هو مطلوب او ملائم لموقع رجل الدين في المجتمع، حقق لي درجة من التوازن وازال دخاناً كان يراه المحبون يحيط بموقعي ودوري ويكاد يخنقه. الى حد انه اعادني الى حالة من الرغبة المتأنية والبريئة من الغرور، في ان اعدّ نفسي لاكون شريكاً كغيري من رجال الدين من مختلف الطوائف والمذاهب في اعادة انتاج القدوة الدينية الوطنية التي تعوض على المؤمنين وعموم المواطنين آلامهم وخسائرهم وخيباتهم التي سببها لهم الخلط العشوائي بين الدين والسياسة. حتى وصل بي هذا النمط من التفكير الى قراءة عدد من الظواهر الاجتماعية التي تنمو وتتفاقم وتهدد بمخاطر جمة، وكان ويكون دائماً بإمكان رجال الدين ان يشكلوا بطريقة تفكيرهم وعملهم ضمانة من مخاطرها التي تحيق بأبنيتنا الاجتماعية الاساسية، والتي كانت وما تزال امانة الله والدين في اعناق رجال الدين. 

أليس مما يؤشر على اخطار وضعنا ومغادرة مواقعنا بسبب الاشباع السياسي وقلة المؤونة الدينية، ان ثمانين بالمئة من حالات الطلاق التي تحدث وتؤشر على زعزعة رهيبة في واقعنا الاسري، بإمكاننا لو عدنا الى دورنا الفكري والاجتماعي والديني، ان نتفاداها، ونتفادى الكثير من المسائل التي تنتجها او تنتج منها؟ 

وهذا لا يعني ان نكون صفراً من المواقف السياسية لان السياسة شأن عام، ولكن داخل هذا الشأن العام هناك شؤون خاصة تأتلف فيما بينها لتقوم العمارة الاجتماعية والوطنية على مجموعها، من دون تفضيل لشأن على شأن. ولكن الاختصاص، الاختصاص، الذي اصبح بوابة حصرية الى الحضارة والمعاصرة المضبوطة والمربوطة بأصولها وجذورها وذاكراتها... ولا احد يطلب من المختص في حقل معرفي، ان يكون منقطعاً تماماً عن غيره من الحقول المعرفية، وكذلك في الحقول الاجتماعية والميادين العملية... الاختصاص يعني المشاركة في المعرفة العامة، وتمايز المختص في هذا الحقل عن المختص في ذلك الحقل، وتأسيس التكامل على موجبات هذا التمايز الضروري. 

ليس المطلوب من رجال الدين ان يكونوا خلواً من السياسة او الموقف او الرأي وحتى الانتماء السياسي، ولكن المطلوب منهم ان يكون نظام القيم الذي هم حراسه ورعاته، هو المستوى الابرز في ضوابطهم واساليب حركتهم وعملهم. اي ان يطلوا على السياسة، لا ان ينخرطوا فيها بحيث لا يتمايزون عن الآخرين الا في الشكل، لان العلم والدين مضمون قبل ان يكونا شكلاً. ثم انهم علماء، او هكذا يفترض، والعالم يشتغل في العام وبالعام وعلى العام، اما التفاصيل فهي من شأن اهل الحرفة، في الصناعة والزراعة والسياسة. والخلط بين المواقع والوظائف يمكن ان يعود على رجال السياسة المحترفين في المنظور القصير المدى، بالفائدة، اما رجال الدين او العلماء، فهو لا يعود عليهم الا بالضرر واضرار التابعين لهم باحسان. 

ان مؤتمراً اسلاماً وآخر مسيحياً وآخر مسيحياً - اسلامياً يقرأ الواقع والتحديات والاسئلة، الآتية من اميركا والعولمة واسرائيل وثورة المعلومات والتحولات الاجتماعية المصاحبة، ليعيد ترسيم دور رجل الدين ومستلزمات هذا الدور علمياً وتنظيمياً وسياسياً وادارياً وحوارياً، افضل والزم واوجب واشرف واعظم، من كل البيانات والحركات والخطابات السياسية التي تستأثر بوعينا وطموحنا وطمعنا واحلامنا واوهامنا واعصابنا... اننا في مضطرب شديد القلق والتوتر مطلوب منا ان نهدأ لنهدئ... ان نتسالم لنسلم ونحقق سلامة الاهل والوطن، قد يكون من حق الشباب من رجال الدين ان يتضايقوا من الرقابة الاجتماعية او الشعبية عليهم، بحيث يشعرون ان حريتهم منقوصة، ولكن الناضجين عمراً وتجربة ومعرفة من رجال الدين، ملزمون قراءة حالهم على نصاب مختلف. ان العلاقة بالفقراء والانكشاف التام امامهم معيشيا وحياتيا يعصمان من المال الحرام ويعززان العفة (او الزهد) المقوم الاول لرجل الدين سلوكا وموقعا. والعلاقة بالشباب من شأنها ان تفتح عقل رجل الدين على المستقبل وعلى الاسئلة وعلى الضرورات التربوية. والعلاقة بالقطاع النسائي تحول رجل الدين الى ضامن لاستواء الأسرة من خلال العنصر الاشد حساسية فيها، من الزعزعة والتفكك. ان سؤال المرأة لرجل الدين عن حكم شرعي يشكل رابطا له ولها فيما بينهما وبينهما وبين دينهما. والعلاقة بين رجل الدين والمحكوم تخفف عنه الشعور بظلم الحاكم وتهديه الى طريقة تعامل فاعلة غير مغامرة مع الحاكم بالمعارضة العاقلة او الموالاة من دون مغالاة، وعلاقة رجل الدين بالحاكم من دون صغار وبالموعظة الحسنة والاعتراض العاقل العادل من شأنها ان تزيد قيود الحاكم في سلوكه ومواقفه. وعلاقة رجل الدين بالمصلين من شأنها ان تصحح صلاته وصلاتهم واذا كانت جرأة من السياسة فانها تؤدي الى ايثار الموعظة في كلامه وحسن وصولها وتأثيرها على المصلين. وليعتبر المعتبرون في ما أخذ يعبر عنه الناس بأساليب مختلفة من استيائهم من ادمان رجال الدين على الخطاب السياسي الصرف في المناسبات الدينية والاجتماعية. 

هل يجوز ان تتحول مساجدنا هكذا الى مكاتب سياسية بينما بسطاء الناس الذين يتخذون المسجد بيتا للصلاة والمحبة والتواصل يشعرون بالغربة عن بيتهم، بيت الله حتى لا يكون كما هو الآن ممتلئا خاويا، لان فيه أجسادا متراصة من دون ارواح متآلفة. الجامع هو بيت الروح والى أين تذهب روحنا الجماعية والاجتماعية اذا لم يكن الجامع جامعا لها، لا مجرد مكان للركوع والسجود الذي يكاد يصبح مجرد عادة لدى الامام والمأموم معا. 

أيها الأحبة رجال الدين في لبنان، لا يخبركم مثل خبير. وأيّم الله لقد دخلت في تجارب سياسية عميقة، كان لي فيها شرف الشراكة في انجازات نظيفة وشريفة. ولكن كل مرة كانت تكتمل فيها التجربة وتصل الى نهاياتها المحمودة، ألاحظ ان هناك تململا مني، ولا يلبث الامر ان ينكشف عن حركة استبعاد واستثناء لي عن كل ما يمت الى القضية المشتركة بصلة. ومرة سألت فقيل لي: ان معاييرك الدينية والاخلاقية تنفعنا الى حد ما وتضرنا فيما يتعداه. ولكم اشتغلت على وصل المنقطع من ود وعلاقة بين طرفين حتى اذا ما نجحت مساعي بخلا علي بخبر عن لقاء لهما او تعاون بينهما. ولطالما اتفق من اصلحت بينهما من اطراف السياسية علي. وهذا ليس بدعة بل هو المعتاد والمألوف في عالم السياسة الاحترافية الذي ليس هو عالمنا، وان كان لنا ومن مصلحتنا ان نطل عليه فلا داعي ولا مصلحة في الاستغراق فيه. 

أيها الأحبة، ولا أعلم أحدا، وانما أشكو مرارات في تجربتي وأضعها امام عيون الذين لم يجربوا، أو جربوا تجربة ناقصة. ان الخطاب السياسي المباشر يشعر الخطيب بالامتلاء الخادع ويشعره بأنه أدى قسطه للعلى فيدفعه دفعا الى الكسل الفكري والارتجال والتبسيط والتسطيح والتسطح. أليس من عجب اننا على كثرتنا المتكاثرة قل فينا الباحثون وكثر الخطباء على كثرة في اللحن وتعويض عن الفصاحة والبلاغة بالصياح! 

دعوني اذكر في ختام اعترافي الصادق بأن مجلس النواب اللبناني لم يتحمل رجال الدين اعضاء فيه. والمفارقة ان جماعتهم السياسية سارعت الى استبعادهم من النيابة، لماذا؟ ألأنهم لم يكونوا أكفاء؟ جميعهم لم يكونوا أكفاء؟ وهل المدنيون الذين حلوا محلهم أكثر كفاءة ممن كانوا الاقل كفاءة فيهم؟ أليس في هذا عبرة لمعتبر؟ 

واذا كان لا بد من التذكير تسهيلاً لاستنباط العبرة واعادة تحديد الوظيفة الدينية والفكرية، فإني ادعو الى البحث في ما انتهت اليه سيرة وقناعة وحالة كثير من رجال الدين المسلمين الذين انخرطوا في الشأن السياسي ولم يكونوا مدخولين في نواياهم من السيد جمال الدين الافغاني الذي عاد الى كنف عبد الحميد الذي لم يتحمله نتيجة سعي المتضررين من السياسيين من سلوكه العائد الى اعتداله. الى الشيخ محمد عبده الذي انقذ نفسه وفكره وفكرنا بعودته الى كتبه ودفاتره وقرآنه وعقيدته كتابة وتفسيراً واصلاحاً تربوياً وعلمياً، الى الشيخ محمد الغزالي والشيخ عبدالله العلايلي من دون ان يعني ذلك انهم كانوا بلا اخطاء حتى في متحولاتهم، ولكن اخطاءهم في هذه المتحولات كانت اقل ثقلاً من اخطائهم قبلها. وكم عدد الذين سمعوا الامام موسى الصدر يشكو ويعرض مراراته من شراكة السياسيين؟ حتى عاد اهل الاحتراف السياسي فعاقبوه على اعتداله ووسطيته وميله الحضاري الى التسوية. واذا كان هناك من اعتراض على هذا الكلام بالمثال الايراني، فإن ايجابية هذا المثال ليست مسلّمة، حتى في ايران، وفي اوساط رجال الدين ممن خاضوا المعترك السياسي ثم انتبهوا، ومن غيرهم، هذا من دون افتئات على الذين ما زالوا يواصلون مسيرتهم السياسية في ايران، وقناعتي بأنه رغم كل الجدل الذي نخوضه مع تجربة رجال الدين في ايران، لا بد من ملاحظة الخصوصية، على ان هذه الملاحظة لا تمس مساً عميقاً بأسباب ارتيابنا في جدوى الاحتراف السياسي لدى رجال الدين. 

لا بد من الاشارة في النهاية الى ان هذا الكلام عن رجال الدين والسياسة بمعناها المباشر، لا يطال، لا يطال تماماً، "حزب الله" و"الجماعة الاسلامية" مثلاً، ومشايخهما، لان الخيار الحزبي مختلف عن الخيار الشخصي، وهذا لا يعني الموافقة، ولكن للموضوع في هذا المجال مستوى آخر في المناقشة.