حكى لي مرة صديق أستاذ بكلية التجارة أنه أعدّ محاضرة علمية لطلبته، ثم وجد في المدرج عدة مئات من الطلاب، وكان يظن أنهم عشرون أو ثلاثون.. قال لي انه اكتشف ان الكلام العلمي لم يعد يصلح للمحاضرة أمام هذا العدد الغفير، وانهم يحتاجون الى كلام إنشائي يبدأ بعبارة: ايها الإخوة المواطنون». د. جلال أمين (محنة الدين والدنيا في مصر).
وفي التسعينيات كان صديقي يخبرني بأن المرحوم غسان تويني لا يحاضر في قاعة يزيد عدد حضورها عن خمسين.. ولا يمكن نسبة ذلك الى عامل السن، وكان غسان تويني يتقن تجديد شبابه جسدياً وذهنياً، بل انه الحذر من الجمهرة والهتاف وجاذبيته.. لقد و جدتني مشدوداً الى تقليد غسان تويني ولو في حدود، خوفاً على عقلي من الجمهور، الذي يختلف عن الناس، الذين يشرفك أن يحبوك وأن يكونوا أصل همومك واهتمامك ومعنى كلامك. وهل القاعات العظمى المؤثثة بسخاء هي التي تنتج المبدعين والمتذوقين، أم ان الإبداع هو الذي ينتج زاويته الحنونة، ومقهاه الرحب، ورصيفه الفسيح، أو قاعته التي يتواكب عليها الآلاف، ببطاقات مدفوعة من دفتر التوفير، للإصغاء، بصمت بهيج وقوْر بليغ، الى باخ أو فاغنر أو بتهوفن أو فيفالدي أو شهرام ناظري، أو محمد رفعت، أو سيد درويش أو شيخ إمام أو فيروز أو محمود درويش؟
ومن دون مبالغة أو مثالية قاسية ومتورمة، في الإصرار على فقر أو إفقار المبدعين، بداعي تنشيط إبداعهم. من دون هذه السادية، يمكن لمن يحب الإبداع والمبدعين، أن يستخدم نعمة الله أو غيره عليه، من حلال أو حرام، أو مال خاص أو عام، في مكافأة المبدع على إبداعه، وبطريقة إبداعية مؤدبة، ومن دون نوايا زبائنية، مع الإلحاح على صيانة فرادة المبدع، لأن الإبداع فرادة.
ولا يمكن لحزب أو طائفة ان تنتج او تبدع مبدعاً، وقد يكون فيهما مبدعون، بقدر ما يكونون أحراراً، ولا أدري كيف؟ إذاً، نرفع عن رقبة الكاتب والكتاب والفيلم واللوحة والمسرحية، نير المنتج والناشر والموزع والمتعهد الخ، ونعفيه من الترويج المنفر له ونحميه بالقانون ونكف عن تشويه سمعته بالأكاذيب المؤدلجة. وهذا يكفي ليستريح المبدع وزوجته وأمه وأخته، من الشعور بالغبن والخوف والقلق منه وعليه وعلى لقمة العيش والعلاج.
إن الإبداع، لا يمكن أن يكون بدعة من بدع السياسي أو المال السياسي، الذي لا يغدق إلا على أمور ثانوية، عائدها له فقط (قاعة، منتدى، مسرح، سينما، إعلام وإعلان سخي، ومعارض).. إنما يأتي الإبداع، أولاً وبالذات، من حساسية المبدع، وحريته ووجعه المعرفي والوجودي وقلقه الروحي، وعنائه بذاته، أو معاناة الآخرين المشتاقين دوماً الى الخبز والحرية.
ولم يكن تولستوي، ككثير من أمثاله، فقيراً، ولكنه عانى آلام الفقراء، وهو غارق في النعمة، حتى انشق عن اسرته وثروته، ومات في الشارع برداً. ولن يكون بإمكان الثانوي في حركة الإبداع، (الحزبي أو الديني أو المذهبي العنصري) أن يحل محل الضروري، أي الانساني، وألوان الإبداع تشبه ألوان الشارات الضوئية على المفارق، فالأحمر للغضب والمعاندة والأصفر إنذار والأخضر رضا مؤقت مرصود بالرفض والغضب.. فيا أيها المقاولون والملتزمون من الباطن، كفوا عن ملاحقة الحبر وإغرائه بالمَصلْ، لأن فيه دمنا، الذي إذا مَصَلَ الحبر مَصَل، ولا يجوز أن يكون من الفوائد الربوية في حساب الدائن أو المرتَهِن، الذي يزين للمبدع، وغيره، بيع دينه بدنيا المموِّل أو الزعيم الخارق.
دعوا المبدعين، حتى لو كانوا يحبون فيكم فضائل عظمى أو صغرى، اقترفتموها مرة، ويعترضون على ارتكاباتكم، التي تستحق التفنيد لا التمجيد، الذي لا يقوى عليه المبدع، فإن وقع فيه، عاد عنه بشراسة، لأن المبدع الحقيقي، اي غير المصنَّع أو المصطنع، لا يجد محفزات الإبداع، إلا في منطقة الاعتراض على السائد أو الحاكم، وإن رضي على أمر وامتدحه، فإنه يبقى مستنفراً للنقد والنقض. وقد يناكف المحكوم أحياناً، أو عندما يكون المحكومون مأخوذين بالجمهرة أو بسحر الحاكم. دعوا المبدعين يبيعون حبرهم لقرائهم بسعر السوق، وهو كاف لو حميناه، وكففنا عن إغراق السوق بما يشبه الإبداع، والمدعوم مالياً بالاستحواذ على دم الكاتب وحبره، في لحظة حاجة أو هشاشة، ردوا عنا هذا الرتل المتعاظم من كتاب السلاطين والمخرفين المعتمدين، لتصبح دنيا الإبداع ودينه وديدنه بألف خير .
وصف استاذنا المرحوم مدني صالح قصيدة صديقه عبد الوهاب البياتي، في مدح حاكم عربي كبير بأنها «قلة أدب وليست أدباً» .
ومرة سألني منتج ثقافي ميسور عن أدباء معوزين لدعمهم، فهاتفت اثنين منهم عارضاً مكرمة الصديق سراً، فهاج الشاعر وماج المخرج، وجف الريق في حلقي هلعاً مما فعلت.
وتذكرت المبدع الفقير (أي الغني) (تحسبهم أغنياء من التعفف ـ قرآن) الذي قال له خادم السلطان: «لو خدمت السلطان ما أكلت حشيشاً». فأجابه بلسان فصيح بليغ نظيف: «وأنت لو أكلت حشيشاً ما خدمت السلطان».
وثلاثة أيام من عمر الجاحظ، عندما قبل أن يكون كاتباً للسطان، كادت أن تطيح أقلامه وقراطيسه ومحابره. وضجت بغداد العلم والأدب، فعاد الى كتبه وطراحته ومحاوريه ومسائليه ومساجليه، وشعر بعظمته وهيبته المستعادة، عندما عاين هامته في عيون قرائه مجللة بالمخطوطات والدفاتر المنتظرة. وشعر قراؤه وتلامذته وزملاؤه وأصدقاؤه وخصومه بسطوته، التي كاد أن يفقدها جراء إغضائه عن سطو السلطان والسلطة على مكانته ودوره.
ولكم كان فاجعاً الشيخ محمد متولي الشعراوي وقد أصبح نائباً في عهد السادات، وهو يخاطبه في جلسة نقاش في مسألة مصيرية بالآية الكريمة التي تتحدث عن الله، رب العزة «لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون». فأثبت العصمة المطلقة للرئيس، وهو - الشيخ - من مدرسة كلامية تقول بالعصمة النسبية أو المقيَّدة للنبي. وللمناسبة، فقد انعقد في بغداد أواخر الستينيات، مؤتمر الأدباء العرب الذي عقد مهرجاناً للشعر، فاستدعى الرئيس أحمد حسن البكر وزير ثقافته كريم شنتاف وأنبه على السماح لشعراء الحداثة بقراءة قصائدهم في المهرجان، وأمره بمنع نشر الشعر الحديث بمفعول رجعي، أي وصولاً الى بدر شاكر السياب و«أنشودة المطر».. لتكف إذن شركات إنتاج وترويج الهارمونات الأدبية الفنية، عن استعراض عوراتها الفاتنة، مغتنمة حرمانات المبدعين المعتقة، والتي عندما تنفجر تبدع.. حذراّ من السمنة المرضية وتراكم الدهون في شرايين الفكر والفن، والبلوغ المبكر والمدمر لأنه يجعل عمر الجسد متقدماً على عمر العقل.
وأذكر هذا الشعر لمحمد العبد الله (عام 1975):
«الدم الزراعي مات.. الدم الزراعي ينزف عشباً أخيراً».. كأن محمد العبد لله يدعو على الدم الزراعي بالموت، لأن الدم الزراعي يتفاقم ويتفشى كالوباء أو كالاستبداد أو الفوضى أو الفتنة أو الارهاب.. وقد يأتي يوم لا نفرّق فيه بين حبة باذنجان وحبة فريز، أو متدين ومنافق، أو بين ملاك ومجرم، ولكننا لن نعلن لذّتنا وغرامنا إلا بالأدب العضوي (أورغانيك).. من الأديب العضوي (من دون غرامشي).. والأدب الزراعي الى جهنم.. وإن اضطررنا فسوف نصوم عمرنا كله، وصالاً!
وفي الختام أتمنى على الشيوعيين العرب والروس وغيرهم، أن يوافوني بإحصاء لمن أبدعوا حقاً من أدبائهم الزراعيين (الرسميين) مقارنة بمن أبدعوا من المعترضين أو المنشقين، أو المتمردين على التعميمات غير العلمية، في الثقافة الشيوعية المركزية، والتي ابتذلت الجدل في المجال الأدبي والفني، واخترعت الواقعية الاشتراكية، لتضع حداً للإبداع الذي لا تناسبه إلا الحرية.. وأدعو الى قراءة ثانية لفصل الفنون من كتاب (البيروسترويكا) وأزمة الشيوعية في هذا المجال لغورباتشوف الذي كان يعرف تماماً ما ينبغي حذفه، من دون أن يعرف ما تجب كتابته، لأن الحاكم عادة ورئيس الحزب، لا يعرف، وما عليه إلا أن يلوذ بهذا الجهل الذي يشبه المعرفة بدل ادعاء المعرفة على جهالة..