في الطالع السماوي والمنحة الوجودية، شكّلت كلمة السماء مهد الرحمة الإلهية والسكة التي تحدد مقبول السماء بخلفية خريطة طريق، تؤكد طابع هذا الإنسان السماوي. من هنا، شكّل السيد المسيح واحداً من مراكز النخبة السماوية في لحظة حساسة من تجربة الإنسان المتدهورة.
بتلك اللحظة أرّخ المسيح أن الإنسان هو سماوي أكثر منه أرضي، لأن من مآله وطن السماء لا بد أن يتخيّر الشروط الموصلة لهذه الغاية العظمى، وتحت هذا المعنى لبّت السماء الخطاب الضامن بضرورة نظافة التركيب السلطوي، والمشروع المالي، والقانون الاجتماعي والأخلاقي، الذي يدور مدار الإنسان كعابر نحو معقل الأبدية، وهذا يعني أن إدارة القيم يجب أن تتوخى الشروط التي تتعلق بالمصير الأبدي، فيلزم من هذا المعنى شراكة الإنسان بالنشأة والمصير، وهو بالمعنى الاجتماعي أراد أن يؤكد أن النسخة البشرية هي قطعة من الرحمة المتفاعلة فيما بينها، ومودة أدبية تمنع السلطة من التوحش، والبرجوازية من شطب الآخر، والأسواق من مصادرة الإنسان، والإمكانات من الاستبداد، والقوة من مصادرة روح البشر. بهذا المعنى يمكن للمجموعة البشرية أن تتحول إلى أسرة متضامنة، بكفالة قانونية بطنها أدب السماء.
هذا هو منطق محبة المسيح، والرحمة المحمدية، والدعوة الإبراهيمية، بكل ما تعنيه معاقلة الوجود، من تفسير وظيفي لدور الإنسان، الذي يدور مدار السنن والتي لن تتوقف قبل أن تلج بهذا الإنسان باب الأبدية.
والمؤسف أن تجربة الإنسان تعيّشت الطين أكثر مما تعيّشت النور، وانصاعت للسلطة بما هي سلطة، أكثر مما انصاعت للقيم، فتحول من خلالها الشوط الإنساني إلى لعبة ذئاب تعيش على امتصاص الدم، بآليات سلطوية ومالية واقتصادية واجتماعية، وسط خصومة إنسان تقطعته ظاهرة الدولة والعرق واللون واللغة ومعركة الأفكار الغريزية. والأخطر أن المخاض الإنساني عاش لعبة الموت، وإدارة الدم، أكثر من مخاض إدارة الوعي، وبخلفية أن مضبط الربح والمنفعة هو ليس بمقاس الإنسان السماوي بل الغريزي والسلطوي والمادي والترابي، دون أية قوة تعديل، بمشروع إنسان الأبدية.
لقد كان النموذج الأول عبارة عن الصراع الذي انكشف عن الدم المسفوح، بين قابيل وهابيل، والذي تحوّل إلى معسكرين يتشاطران البشر حتى يومنا هذا، والخطير أن تتحول الموارد والطاقات وآليات إدارة الأمم بما في ذلك طاقة الأسواق إلى اشتباك مصالح ليس فيه الإنسان، بل الأنانية بمعناها الذي يساوي الشركات والمؤسسات والعائلات المالية والطبقات ومستلزمات السلطة وعقلية منافع الحاكم.
هذه حقيقة العالم اليوم، وهذا ما لا تريده السماء، وهو ما انبرى له أولو العزم من الأنبياء، الذين يشكلون لسان السماء للتحذير منه، لأن مركز القيم فيه تعيّشت على الفردية التي تفترس الجماعة، والجماعة التي تتكيّف كهف الأنانية، بإعلان حروب واحتكار أسواق، ومصادرة موارد، دون أن يكون للكم والنمط المالي والموردي دور الضامن للإنسان، لتنكشف التجربة الإجتماعية للإنسان عن تجويع وإفقار وبؤس وخوف وقلق وهواجس تستنزف ما يقارب الـ90% لصالح أقلية تتفاوت بين أباطرة الـ10%.
إن كلمة السماء لم تكن لتصادر الداعي الفردي أو المبادرة الفردية بالإنسان، بل لتوظف تلك المبادرة على سكة الشروط الضامنة لمطالب الإنسان العابر نحو أسمى آيات الوجود. وهو مراد السماء من معركة الوعي، أي معركة الكلمة، التي دفع الأنبياء والأولياء أرواحهم ثمن ترسيخها، وهو في لبنان يعني التفتيش عن بقية الإنسان بعد أن تحوّل الانسان إلى فريسة خائفة، في غابة السلطة والمال والأعمال، التي تشكّل نبيّ الليبرالية المتوحش.
إن المطلوب سلطة لهذا الإنسان تعيش روح المسيح ومحمد، سلطة لا تعتاش على النهب المالي، والإفناء الاجتماعي، سلطة لا تبيع بلداً بحقيبة سوداء، ولا دولة من أجل تجديد أو تمديد، سلطة خالية من عملاء الحرب وسماسرة الأمم، وبين هذه وتلك نحتاج إلى سلطة دينية ترسّخ بصوت محمد والمسيح لتؤكد لحمة البشر، ووحدة النشأة، وشراكة المصير، فتحرّم مذبحة الإنسان خاصة المذبحة السورية التي لم يشهد التاريخ لها مثيلاً، والتي يستثمرها فراعنة هذا العالم، لإعادة ترتيب المصالح وليس القيم، فيما المصطفى محمد والسيد المسيح يدينان الإبادة الهائلة التي ترتكب بحق الإنسان، بعد أن تحوّل فأر مختبرات بدلاً من خلافته التي هي أوّل كلمة الرب للكائن العاقل الذي كرّمه فسمّاه "الإنسان".

 

* المفتي الجعفري الممتاز