دخل الجنوب بعد التحرير فضاءًا أرحب مما كان عليه لحظة الانكماش داخل الاحتلال وبدأ يستعيد نشاطاً وحيوية لطالما تمتع بها الجنوبيون لخلق فرص جديدة في حياة لم تنصفهم نتيجة للاهمال من جهة وللحروب التي استنزفتهم منذ بروز الأزمة الفلسطينية كقضية عربية ووضع لبنان كرأس حربة في مشروع العودة والتحرير .ثمَة غلو رافق المندهشين بالنصر , ونظرة كان يمكن لها أن تكون ايجابية لولا طبيعة النظام السياسي الذي ركَب مستويات انسانية مقولبة في قالب طائفي خاص , وثمة مباشرة جماعية لبيئة اندمجت دمجاً معلقاً بانجاز تاريخي تحوًل معهم الى ميزة تمَ استثمارها وصرفها في مجالات متعددة , في السياسة والتجارة والتربية والتعليم , اضافة الى السلوك الاجتماعي البارز في التواجد الديمغرافي للطبقات الاجتماعية لجمهور الطائفة المقاومة .بدأ الحزب الطليعي متجاوباً ومستوياً مع طبقته الاجتماعية , لذا نزل الى مستواها , ولم يستطع اصعادها اليه , ولهذا تحوَل الى حزب الطائفة تعبيراً منه عن مصالحها المتعددة والمتجاوزة لحدود القوانين المحلية , وذلك في لحظات ساخنة ومنفلتة من طوق السلطة المفقودة , ابَان انقساماتها السياسية المتلاحقة والمتعلقة بملفات ومواضيع وعناوين أساسية . في العودة الى الجنوب المنتفخ بالقوة , وفي مستوياتها كافة , ثمَة تنشئة لبيئة متشابهة في التفكير وفي السلوك الجمعي ,بحيث أنهم يحبون ويكرهون بنفس الطريقة وبنفس الاتجاه , حتى أن الاهتجاس الذي يسيطر عليهم في محطات مستشعرة لمخاطر وافدة من بُعد خارجي أو داخلي يُعبَر عنه بآداء واحد , وبلغة واحدة , حتى أنهم يرتبون كلمات متشابهة في المديح والشتم دالة على توجيه مركزي يقوم بنشر المعلومة اليومية ليتمَ تسويقها مباشرة في أسواق الناس , ويتلقفها البائعون والمُشترون دون تمحيص أو تدقيق في صحة الخبر المُذاع من الجهات المُختصة . هذه الظاهرة الجنوبية هي مظهر من مظاهر القوَة التي تمتعت بها طوائف لبنان , وعلى فترات مختلفة , بدءًا من الطائفة المارونية الممسكة بحبل السلطة وبقوة مفرطة , وبحبل الطائفة المُرتقية باسباب القوَة , وفي ورش كثيرة , وأهمها السيطرة الكاملة على العلم والمال . مروراً بالطائفتين السُنية والدرزية أثناء الصعود القومي , والمدَ الفلسطيني الذي بلغ مبلغاً سيطر فيه على لبنان وعلى اللبنانيين وبطريقة فرضت توازنات سياسية جديدة كانت لصالح الطبقات الطائفية المتموضعة داخل اطار العمل الفلسطيني .من هنا يبدو المشهد الشيعي مُكرراً لتجربة طائفية سابقة , وان كان بظروف وأسباب أخرى , الاَ أن الاتكال على منطق الطائفة القوية اختزال لباقي الطوائف , وتأسيس لسلطة أقوى من سلطة المشاركة اللبنانية المُتكافئة , وسيكون حاله حال المارونية المُستقوية على الطوائف الأخرى وبالتالي سيكون حال اللبنانيين كما هم عليه الآن خصوماً وأعداءًا ينتظرون الفرص المؤاتية والسانحة للانقضاض على بعضهم البعض . لا حاجة الى استعراض النتائج المخيبة للآمال بالنسبة لطائفة كانت قوية وباتت متسكعة على أبواب طوائف كانت واهنة أو أضعف من النفوذ الماروني بغية الحصول على تمثيل سياسي يلبي مصالح الزعامات المُسيطرة على أطلال الطائفة التي كانت في يوم من الأيَام قوية ومستقوية على الطوائف الأخرى . هذا المعيار يساعد على استخلاص العبر من التجارب الماضية والسابقة , حتى لا نعيد الكرَة مرَة أخرى , ويتمَ تداول الأزمة اللبنانية بطريقة متشابهة كي لا تبقى الطاحونة الداخلية تتحرك على حجر واحد , وهذا مالا يُساعدنا على تطوير شبكاتنا الداخلية سواءًا أكانت أطراً طائفية أو حزبية , وعلى تطوير مؤسساتنا الرسمية لتصحيح مسارنا السياسي وفق هندسة منصفة للجميع وغير غابنة لأحد من اللبنانيين . ان سيطرة الهواجس الطائفية والمخاوف التي تنتاب اللبنانيين قدَ استقطعتهم كجماعات وملل ونحل , وكل ملة تفكر بطريقة عدائية تجاه الملة الأخرى , حتى بات العنف أكثر الوسائل انتظاراً لا ستقباله بحرارة في لبنان , بعد أن وفد الى المنطقة بأكملها ,وأحرز نتائج متقدمة أسهمت في استعار الحالة الطائفية والمذهبية وتحولها الى مشكلة متفاقمة من الصعب التخلَص من أدواتها المُدمرة للهوية العربية والاسلامية .لذا تتحمل الطائفة القوية مسؤولية أكبر في تعزيز السلم والاستقرار وتثبيت سقف السلطة والدولة , حتى لا تتحوَل كما تحولت من قبل الطائفة المارونية الى عبء ثقيل أثقل كواهل الطوائف , الأمر الذي دعاها واستدعاها الى التعاون مع الشيطان حفاظاً على مكتسبات السلطة والقوة. طبعاً المثل يُضرب ولا يُقاس , لأن لكل حالة خصوصيَتها وأسبابها القسرية أو الطوعية , الاَ أن الاستقراء للصورة الطائفية في لبنان يستدعينا الى معالجة نتؤات كثيرة في الجسم السياسي عندما يتضخم وقدَ يتحوَل الى ورم خبيث يأكل البنية اللبنانية باكملها . ربما لعب الحنوب في مرحلة الاحتلال دوراً وطنياً ريادياً صنع من خلاله نصراً استثنائياً على عدو لا يهزم , وصان الحدود واسترد الدولة الضائعة في كنف الاحتلال , وكانت تضحياته مُثمرة داخلياً في الغاء نتائج الحرب الأهلية وفي تعزيز العلاقات اللبنانية المتشظية بفعل السيطرة الطائفية على المجتمع والدولة . لذا كان الجنوب بوابة لبنانية مفتوحة على تعزيز الدولة وتطوير الحياة السياسية وتحسين شروطها بما ينسجم مع مصالح اللبنانيين كافة وعلى قواعد عادلة ومتوازنة ومتوازية لا غلبة فيها ولا أكثرية فيها ضامنة أو صامتة وقائمة على شراكة فعلية يتساوى فيها الجميع أمام القانون وفي الحقوق والواجبات . ان اسهامات المؤسسين لشيعية سياسية لبنانية استقامت على مشروعية النضال لتحسين شروط المواطنة من جهة وعدالة الدولة من جهة ثانية . على أن شعار الدولة الناهضة ليس رُتبة سياسية غابنة وانما جزء أساسي من عملية التطوير لبناء الانسان دون الاتجار بهويته الطائفية أو المذهبية والدفع بها الى سلطوية قصيرة ومُهددة لمصالح أرقى من مصالح طبقة اجتماعية أو شبكة طائفية أو أيَ عنصر ذي حيَز ضيق . عندما نقاب الجنوب زمنياً نستطيع التأمل في مجاره اليسياسي والاجتماعي وميزانه التجاري واستقراه الأمني وقد يلبي ذلك حدوداً ضرورية لمتابعة زاوية ورقعة جغرافية تحتل أهمية قصوى في لبنان باعتبارها معياراً ضامناً لمناخ الأمن وفضاء السياسة, ولكن أردت الاشارة الى بُعد جوهري في سياق جنوبي نراهن عليه باستمرار لتجديد حيوية مُسهمة في البناء لا الهدم لمرتكزات قائمة على مصالح وطنية أسمى من حدود المصالح الخاصة و التي يدفع فيها الطائفيون في لبنان الى المزيد منها لتخريب الوطن وفساد الدولة .