مقولة مشهورة ل"فولتير" عندما قالها ل"روسو" أنا لا أقرأ كلمة واحدة مما كتبت ، ولكنني سأقف حتى الموت مدافعاً عن حريتك ، مؤيِّداً حقك في أن تقول ما تريد... كانت الحضارة الإسلامية تاريخياً هي البيئة الحاضنة لحرية النقد الفكري والمعتقد الديني وذلك لأننا لا نرى في مبادئ الإسلام ما يحدُّ من إنفلاش حرية الرأي والنقد على مداها الواسع..والحق لا تزيده حرية الرأي والنقد إلاَّ تألقاً ولمعاناً ، والنص القرآني نفسه هو نص حواري يعمل دائماً على إنتاج المداليل عبر تثوير المعاني والإمعان في خلق تجلياتها...كحكاية القرآن الكريم حول إبليس عندما حاوره الله تعالى وأعطاه فسحة من حرية التساؤل والنقد في قضية آدم وحواء عليهما السلام ، ثم إنتقل النقد والحوار بين آدم وإبليس كما ورد في قصص القرآن وحكاية الصراع بينهما...وأيضاً يحكي ما جرى بين آدم والملائكة من نقد وحوار ، وهذا ما جرى ايضاً بين الأنبياء وأقوامهم من حرية النقد والتساؤل لكي تنجلي مكامن القوة والإبداع في الخطاب الديني من اجل تقويم فلسفة النقد وحيويته وروحيته..وهذا ما نراه ايضاً من اتباع الديانات المختلفة في بداية ظهورها كانوا يعيشون الإنفتاح على الآخر والحوار معه من أجل تحويل الدعوة الجديدة إلى واقعٍ حيٍّ وفعَّال يفضي إلى إخراج الإنسان من دائرة الجمود واللامبالاة إلى دائرة الضوء والفاعلية في حركة الحياة..ولكن هذه الحالة الحضارية بدأت تأخذ بالفتور والنضوب عندما تحوَّل الدين من إيمان قلبي مشحون بالعواطف الدينية والقيم الأخلاقية إلى هوية شخصية للفرد ويصبح الدين عبارة عن عنصر من عناصر الهوية وتتحوَّل المؤسسات الدينية العثمانية في المصطلح الجديد إلى كيانات رسمية تهدف إلى الإحتفاظ بوجودها وقداسة أفرادها من خلال الدفاع عن الدين بما هو دين الهوية لا بما هو إيمان قلبي يدعو الإنسان إلى الإنسجام مع خط الرسالة والقيم الأخلاقية وتسلَّحت في قتل النقد والرأي الآخر وحرية البحث عندما إستخدمت سلاح تحريم الإطلاع على الفكر الآخر تحت عناوين تحريم قراءة كتب الضلال لأنها بدعة ما أنزل الله بها من سلطان وبالتالي تؤدي إلى زعزعة معتقدات المسلمين وإنجرافهم نحو الضلال والهاوية...هذا الأسلوب المعتمد يظهر لنا عنصر التعصُّب وإمتلاك الحقيقة المطلقة والدوغمائية المريضة والمتخلِّفة التي تمنع صاحبها من النقد والحوار وتبادل الأفكار مع الآخر فيبقى الإنسان محصوراً وفاقداً لعقلانية التحرُّك ويعيش في قالب من قوالب العصبية والمذهبية التي تكبِّل عقله وسلوكه في زنزانة الأفكار الماضوية وأقوال السلف ويتحوَّل داخله إلى عقدة مستعصية في نهاية المطاف..فإذا كنا نعتقد أنَّ الحوزة لا تخضع لنظام كنسي على غرار ما كانت عليه الفاتكان ، وإذا كنا نعتقد أنَّ الحق إلى جانبنا ، وأننا قطب رحاها فَعَلامَ نأنف من سماع الآخر ؟ ولماذا نسيج أنفسنا ونأنس بالنوم على يقينياتنا ؟ ولماذا نخاف النقد النزيه الجامع للشرط العلمية ؟ ولهذا عندما ننتقد أو ننقض لأننا نغار على ديننا.. ونتألم لا لأننا نكره أو نعادي ، وننتقد الحوزة لأننا نريد لها التقدم بما هو أفضل ولأنها لا تحترم منطق الحياة التي نعيشها بمعاناة ومرارة وقتل وحروب وتفاهة بلا قيود وشروط..إنَّ الحزن والبكاء هما من أنبل العواطف الإنسانية في مواجهة الطمي..وطوابير التفاهات التي لا نستطيع لها علاجاً إنها تنتج لنا في كل عصر أوهاماً متوترة سرعان ما تتحوَّل إلى تعصَّب وخصومات وتصبح هذه الأوهام بعد ذلك آلهة متوحشة يضع فيها الإنسان كل آماله في البحث عن النجاة ويفسِّر لها كل أسباب تقدُّمه وأسباب تخلُّفه إلى أن تذبُل فيستعين بأوهام أخرى يتخرَّصها لتؤدي نفس المهام وتصل إلى نفس الغرض..كل هذا النقد لنخرج من العزلة في زنزانة الصمت المخيف وليقع على كاهل الحوزة إيقاظ العملاق الراكد في كيان الامَّة...الشيخ عباس حايك..