على مدار عام واحد بعد احتجازه في سجن “رومية" اللبناني إثر محاولته الانضمام الى عائلته في لبنان، تحول الطبيب السوري الشاب المعروف «ماهر» إلى مراجع لمصحات الإدمان وأصبح بحاجة إلى إعادة تأهيل نتيجة إدمانه على المخدرات. علاوة على ذلك، يعكس سقوط ماهر في بؤرة تعاطي المخدرات أثناء وجوده في السجن، وجود مشكلة أكبر بكثير تتمثل في عمليات تهريب المخدرات واستهلاكها والتي بسببها أصبح سجن رومية سيئ السمعة بشكل متزايد. يقع أكبر سجن في لبنان في منطقة رومية في قضاء المتن شرق بيروت، ويضم ما يقرب من 5500 نزيل. يُعتبر سجن رومية من أكثر السجون اكتظاظا، ويضم محتجزين ممن هم على ذمة المحاكمة ومن تمت إدانتهم بالفعل، كما يضم السجن أقسام منفصلة للشباب من المراهقين والنساء والرجال. ونظراً للحجم الكبير للسجن وتوفر شهادات تفيد بانتشار شبكات المخدرات فيه، أصبح سجن رومية في حد ذاته، هدفا لمعركة لبنان مع إدمان المخدرات.

 من مجال الطب إلى طريق الإدمان

فجر الرابع من نسيان/أبريل 2017، وعلى الطريق الواصلة بين منطقة "شبعا" والعاصمة بيروت، أوقف حاجز متنقل سيارة كانت تقل الطبيب السوري "ماهر" واثنين من أصدقائه كانوا قد دخلوا الأراضي اللبنانية عبر أحد المعابر غير الشرعية في جبل الشيخ، بالتنسيق مع مهربين من الداخل السوري عزموا على نقلهم من بلدة "بيت جن" إلى منطقة "شبعا" اللبنانية، وآخرين كانوا يعزمون نقلهم منها إلى بيروت حيث تقيم عائلته.

ويصف ماهر تجربة اعتقاله قائلا: "دخلنا الأراضي اللبنانية عبر بلدة بيت جن ليل الرابع من نيسان، وبقينا في منزل أحد المهربين المنسقين مع المهرب السوري حتى فجر اليوم ذاته، ثم خرجنا من المنزل متجهين نحو بيروت بواسطة سيارته، وما أن تجاوزنا مدخل البلدة، حتى أوقفنا حاجز متنقل يتبع للمخابرات اللبنانية، ونقلنا جميعاً إلى مخفر شبعا للتحقيق، بعد الإفصاح عن دخولنا لبنان بطريقة غير شرعية قبل ساعات.

أمضى ماهر وأصدقاؤه عدة ساعات في مخفر شبعا، حتى جاء الأمر بنقلهم إلى سجن رومية، في حين يتم التحقيق في تهم العبور بطريقة الخلسة الى الأراضي اللبنانية. ويعتقد ماهر أن هناك الكثير من الأشخاص الذين قُبض عليهم في تلك الفترة أثناء عبورهم بالطريقة ذاتها، وأطلق سراحهم بعد عدة أيام، لكنه يرى أن سبب احتجازهم لفترة أطول يرجع إلى " واقع العمليات العسكرية التي كانت تشهدها منطقة "بيت جن" ومحيطها آنذاك، أثار الشكوك حولنا". علاوة على ذلك، أتُهم ماهر أيضا بالعبور من داخل إسرائيل"، كون المعبر الموجود في تلك المنطقة يقع في المثلث الحدودي بين سوريا ولبنان ومرتفعات الجولان.

تحولت حياة ماهر بشكل كبير بعد قضائه عام كامل في سجن رومية، "من طبيب يعالج المصابين والمرضى في سوريا، إلى سجين حيث "لا مكان للصحيح هناك"، ولا سبيل له سوى تعاطي مادة الحشيش لمجاراة السجناء طيلة المدة.

وفى السياق ذاته، أشار العميد "غسان عثمان" مدير السجون اللبنانية سابقاً، ومستشار وزير الداخلية إلى أن انتشار المخدرات داخل سجن رومية ليس بجديد، وأن القوى الأمنية المولجة حماية السجن تقوم بواجبها على أكمل وجه، مضيفاً: "على الرغم من نجاح بعض المحاولات لإدخال المخدرات، إلا أن القوى الأمنية تضبط معظمها.

ومع ذلك، تشير الأحداث الأخيرة، إلى جانب إفادات السجناء وضباط السجن، إلى أن مشكلة المخدرات التي يعاني منها سجن رومية لا تزال خارج السيطرة، ففي آذار/ مارس 2023، حاول مجهولون تهريب 74 حبة مخدرة ومادة بيضاء اللون وهاتف خلوي وحافظة بيانات” USB “بواسطة طائرة مسيرة. وقبل ذلك بيومين، ضبطت مجموعة التفتيشات التابعة لسرية السّجون المركزية في وحدة الدرك الإقليمي، سيدة كانت تحاول تهريب كميّة من مادة الحشيش مغلّفة ومخبّأة بطريقة محترفة داخل جسدها، أثناء قدومها لزيارة ابنها نزيل سجن الموقوفين بجرم مخدرات في سجن رومية. وفى أواخر آب/ أغسطس 2022، قُتل السجين "سيرج الملوش“ بطريقة وحشية على مرأى من السجناء الآخرين على يد أحد السجناء المهوسون بالمخدرات ويدعى حنا عبد الأحد. وغالبا ما تدفع تلك الأحداث الصادمة الكثيرين لطرح نفس الأسئلة التي طرحها أقارب الملوش: كيف وصلت المخدرات والسكاكين إلى الزنازين؟ أين كان الحراس أثناء ارتكاب الجريمة؟ ومع ذلك، من الصعب الحصول على إجابات لتلك الأسئلة.


ثقافة تعاطي المخدرات في سجن رومية

ادرك ماهر في وقت مبكر من سجنه أن تجارة المخدرات واستهلاكها كان أسلوب حياة في سجن رومية. ويتذكر ماهر قائلاً" قد نجد صعوبة في تأمين الأدوية اللازمة لعلاج أحد السجناء المرضى، بينما العثور على الحشيش وحبوب الكبتاغون وغيرها من المواد المخدرة ليس بالأمر الصعب، والأكثر سهولة من ذلك هو تعلم التعاطي ومن ثم الإدمان". وأوضح ماهر أن هناك عامل حماية اجتماعي وراء ممارسة تعاطي المخدرات بين النزلاء: لا مكان للصحيح هناك، ولا فائدة للنصيحة بين السجناء، فإما أن تكون واحد منهم وتعايشهم، أو أن تكون رافضاً لتصرفاتهم وهو ما يعتبروه معاداة لهم لمجرد الاختلاف". يتابع ماهر".

والدة السجين "علي" أيّدت ما قاله ماهر حول انتشار استخدام المخدرات في سجن رومية، واصفة حال ولدها الذي تغير خلال عشرة أشهر قضاها داخل سجن رومية بتهمة لا علاقة لها بالإدمان أو التعاطي، موضحة: "دخل ولدي إلى السجن بتهمة تتعلق بقضية "سرقة"، وكان من المفترض أن يتم إخلاء سبيله بعد ثلاثة أشهر مقابل كفالة مالية، إلا أن وضعي المادي لم يسمح لي بدفعها، واستمرت مدّة حبسه إلى عشرة أشهر، تغيّر خلالها إلى مدمن للمخدرات رغم أنه لم يكن يعرف عنها شيئاً قبل دخوله السجن بتهمة السرقة ، إلا أن آثار الإدمان أثرت على حالته الجسدية والعقلية بشكل كبير. وأوضحت والدة علي: "لقد كان هادئًا جدًا، والآن أصبح سريع الغضب وعدائيًا للغاية".

 "أم حسين" وهي والدة أحد السجناء بتهمة "التعاطي" قالت إنها باتت تخاف إرسال الأموال إلى نجلها السجين في "رومية"، على الرغم من إلحاحه دائماً في طلب الأموال، لأنها كانت تعتقد أن أي أموال سترسل لابنها ستذهب لشراء المخدرات. وأوضحت أم حسين قائلة: "دخل حسين وأصدقائه إلى السجن بجرم "التعاطي"، لكنهم أصبحوا مدمنين بشكل أكبر داخل رومية. لا يمكننا منعه من التعاطي، لكن يمكنني قطع الأموال عنه لمنعه من الشراء".

هناك وسيلة أخرى لتهريب المخدرات داخل السجن وتتم من خلال السجناء الذين يتاح لهم الوصول إلى المشافي الخارجية، حيث يعتبر السجناء المرضى الذين لديهم مراجعات دورية إلى المشافي خارج السجن، من أبرز المتورطين في عمليات التهريب، حيث يعمل المرضى على استلام المواد المخدرة داخل المشفى أثناء المراجعة، وتهريبها إلى داخل السجن حين عودتهم. وقد حصل معد التحقيق على صور حصرية لسجين تعرض إلى بتر بقدمه، توضح إقدامه على إخفاء كميات من المواد المخدرة داخل بنطاله من جهة قدمه المبتورة أثناء مراجعته للمستشفى، ومن ثم إخراجها داخل السجن كونه لا يخضع للتفتيش. وفي عدة حالات أكثر خطورة، كان السجناء الذين يراجعون المشفى الخارجي يقومون بابتلاع المخدرات، وبعد وصولهم السجن يقومون بالتغوط ويتم سحب المخدرات من فضلاتهم.

وبحسب الشهادات فإن هناك مرحلة ثانية يتم فيها طحن الحبوب ووضعها على منشفة ريثما تجف من الماء، ثم يتم وضع المكونات في أواني مخصصة للطبخ، ويلجأ السجناء إلى عصرها ووضعها في زجاجات مخصصة للبيع والترويج. لا تقتصر عمليات التهريب عل الرجال فقط، فهناك العديد من السيدات المتورطات في تلك العمليات خلال الزيارات، حيث يعتمدن على "أعضائهن التناسلية" لإدخال المواد المخدرة إلى السجن، حيث يتم وضع المخدرات في "واقٍ ذكري"، وتقوم إحدى السيدات بوضعه داخل "عضوها التناسلي" لحين وصولها باحة السجن، ثم تضعه في زاوية محددة متفق عليها مع السجناء العاملين في الترويج.

تتبع شبكات توزيع المخدرات

شبكات عصابات المخدرات: تشير شهادات من مصادر عدة داخل السجن نفسه إلى وجود بعض السجناء يشكلون عناصر فاعلة في شبكات تهريب المخدرات، بما في ذلك أولئك الذين ينحدرون من عائلات لها تاريخ طويل في تجارة المخدرات. وأشار أحد المسؤولين الأمنيين في سجن رومية إلى أن التنافس بين عصابات تجار المخدرات المختلفة في السجن أصبح له طابع خاص، حيث تتجول عصابات ترويج المخدرات بأريحية تامة داخل السجن وتفرض خوات على السجناء خلال فترة سجنهم، تبدأ بتقاضي مبالغ مالية كبيرة مقابل الحصول على أسرّة للنوم وطعام وسجائر وغيرها تحت ستار "الحماية"، إلى جانب "الكارت" الذي يستخدمه السجناء للاتصال بعائلاتهم، بحيث يصل سعره داخل السجن إلى 100 ألف ليرة لبنانية (ما يقارب 70 دولاراً أمريكياً حينها)، في حين لا يتجاوز سعره خارج السجن 15 ألف ليرة لبنانية فقط (ما يقارب 10 دولارات أمريكية).

غالبا ما يتعرض أولئك الذين يرفضون الامتثال لأنظمة العصابات للضرب. وفي الواقع، صرح أحد المسؤولين أن معظم المعارك التي تحدث بين "عصابات السجون" والسجناء الآخرين تأتى نتيجة خلافات مالية متعلقة بالمخدرات أو بسبب رفض الانصياع لقرارات هذه العصابات.

مساعدة حراس الأمن: يرى الأشخاص الذين أجريت معهم مقابلات أن هذه الديناميات تتم بعلم ودراية – وفي كثير من الأحيان لمصلحة– ضباط وموظفي السجن الرئيسيين. وأشار ماهر إلى أن أفراد هذه العصابات يتمتعون بحماية الضباط والدرك الذين يتقاسمون معهم الأموال التي يجمعونها من السجناء.

ووفقا لشهادة ماهر: "ليس هناك من يلاحق هذه القضايا، ولا مساءلة للمتعاطين، بل على العكس تماماً، بسهولة كبيرة يمكنك العثور على المروجين والمسؤولين عن إدخال تلك المواد إلى داخل الزنازين، وغالباً ما يقف عناصر الحراسة في صف المروجين حال وجود أي خلاف حول تصريف المواد مع بقية السجناء، فهم أولاً وأخيراً المسؤولين والمستفيدين". ويضيف ماهر أن مهمة مروجي المخدرات داخل السجن تبدأ بعد وصول المواد المخدرة إلى داخل الزنازين، أم أصاحب المهمة الأولى هم الضباط والعناصر المتورطون في عمليات التهريب من خارج السجن إلى داخله، سواء كان بطريقة مباشرة من قبلهم، أو ن خلال تقديم تسهيلات لأقارب وأصدقاء المروجين القادمين في زيارات غير منقطعة.

وأضافت أم حسين: "لا شك أن هناك من يساعد بوصول تلك السموم إلى داخل السجن، ولا يخفى علينا تورط ضباط وعناصر في تلك العمليات"، متسائلة: "لماذا عرضت السكاكين التي صادرتها عناصر القوى الأمنية خلال مداهمة غرف المساجين في رومية على الإعلام، ولم يتم عرض المخدرات التي تعتبر أكثر خطورة؟ هل تجرؤ القوى الأمنية على عرض المخدرات الموجودة داخل السجن؟ أم أن "الرؤوس الكبيرة" تمنعهم؟".