في ظلّ انهيارِ منظومةِ القيَمِ الأخلاقيّةِ والإنسانيّةِ، لدى الكثيرِ من الدّولِ الحضاريّةِ، بعد مواقفِها الدّاعمةِ لقتلِ المدنيين الأبرياء في قطاعِ غزّة. هل نحن اليوم أمامَ طوفانٍ مجتمعيٍّ يثورُ على دعاةِ الحريّةِ وحقوقِ الإنسانِ، ويشكّلُ ركيزةً لتحولات استراتيجيّة في العالم الغربيّ؟ سؤالٌ مطروحٌ بحكمِ الواقعِ، والطبيعةِ الإنسانيّة والفطريّة.

   دَأَبَ الغربُ المُتمدّنُ خلال عقودٍ خَلَت، على رفعِ شعاراتٍ استهلاكيّةٍ، تناولَ فيها حقوقَ الإنسانِ. فنادى بالحريّةِ والعدالةِ الإنسانيّةِ، ودعا إلى نشرِ الدّيمقراطيّةِ في بلدانِ العالمِ كلِّه، وخصوصًا في بلدانِ العالمِ الثالث. ولهذه الغاية، وظّفَ جلَّ قدراتِهِ وطاقاتِهِ الفكريّة والثقافيّة، بهدفِ نشرِ هذه المفاهيم باحترافيّةٍ خادعةٍ قلّ نظيرُها في التاريخ. وتحت هذه العناوين النبيلة أيضًا، والشعاراتِ البرّاقةِ، استخدم ما يملكه من قوّة عسكريّة؛ فاحتلّ دولاً، وخرّب مجتمعاتها، ونَهَبَ ثرواتها وخيراتها، وفكّك بِنْيَتَها الإقتصاديّة والعسكريّة والثقافيّة والحضاريّة.

    وفي هذا المجال، نُسجّلُ أنّ الحكّام الغربيين استطاعوا أنْ يُقنعوا بعضَ المجتمعات في دول العالم الثالث بهذه الادعاءات. إذْ استعملوا لذلك وسائل شتى؛ منها، أنّهم أنشؤوا الكثيرَ من الجمعياتِ الإنسانيّةِ، ونشروها في المجتمعاتِ المدنيّةِ، تحت مسمياتٍ متعددة: حقوق المرأة، حقوق الطفل، الرفق بالحيوان، وغيرها. فقدّموا المساعدات الإنسانيّةٍ، من خدمات طبيّةٍ للمرضى، ومعوناتٍ ماديّة للمحتاجين والفقراء، ومشاريع متنّوعة، تطاولُ الحاجات الملّحة للنّاس. كلّ ذلك بهدفِ تلميعِ صورتِهم، وصرفِ الأنْظارِ عن مخططاتِهم الحقيقيّة للهيمنةِ والسيطرة، التي هي مشروعُهم الحقيقيّ. ومن لا يمشي في ركابِهم، ولا ينصاعُ لإرادتِهم، ثمّ يطالبُ بحقهِ في تقريرِ مصيرِه؛ فهو معادٍ للساميّة، وضدُ الديمقراطيّة.

   أمّا في مجتمعاتِهم، فقد جعلوا من أهداف الجمعياتِ الإنسانيّةِ مطيّةً لتثبيت حكمهم، ودوام سلطانهم، والسيطرة النّاعمة عليها. ولهذا، فقد وثّقوا أعمَالَ هذه الجمعيات في تقاريرَ مصوّرةٍ، بُغْيةَ الظهورِ أمامَ مواطينهم، أنّهم رعاةُ الإنسانيّة وحقوق الإنسانِ، وحماةُ الديمقراطيّة والعدالة. ومن ذلك، أنّ الولايات المتحدة الأمريكيّة، تعدّ أكثر دولة في العالم لديها جمعيات إنسانيّة؛ فالمواطنُ الأمريكيُّ، الذي ينساقُ وراءَ دعاياتهم الإعلاميّة الجذّابة، ينتخبُ الرئيسَ الذي يدعمُ هذه الجمعيات الإنسانيّة، والعنصرُ في الجيش الأمريكي، يُقاتلُ خارجَ حدود بلاده دفاعًا عن حقوقِ الإنسانِ، وسعيًا لنشرِ الديمقراطيّة؛ وعندما تنكشفُ الحقائقُ أمامَه، ويعودُ إلى وطنه، تبدأُ رحلته مع أصدقائه الذين سبقوه، لكشفِ الجانبِ المزيّف الذي أخفَتْهُ شعاراتُهم الملونةُ.

   إنّ الحقيقة التي حاول الغربُ إخفاءها طوال عقودٍ مديدةٍ من الزمنِ، فَضَحَتْها أشلاءُ الأطفالِ التي تمزّقت في غزة بصواريخِ هذا الغربِ الداعمِ للصهيونيّة المُتَوحشةِ. فلمْ تَعدْ حِيَلُهم، ولا طُرقُهم الملتويّةُ لتقنعَ أحدًا من النّاس الذين آمنوا بمبادئ الحريّة، وحقوقِ الإنسان، والديمقراطيّة الحقّة. ولذلك، خرجوا بمظاهراتٍ ضخمةٍ، عجّتْ بها شوارعَ مدنِهم الفسيحةِ، ليعبّروا فيها عن إنسانيتهم الأصيلة، وقيَمهم المُتجذّرةِ في نفوسِهم، انسجامًا مع ذواتهم وقناعاتهم، ويرفضوا فيها هذه الإبادةَ الجماعيّة الممنهجة، ولينتفضوا على حكوماتهم التي دَعَمتْ آلةَ القتلِ المُتوحّشة؛ إنّها طفرةٌ إجتماعيّةٌ عارمةٌ، أوقدتْها مشاعرُهم النبيلةُ الصادقةُ.

 

   أمام هذه اليَقَظَةِ الإنسانيّةِ التي تشهدُها المدنُ الغربيّةُ على وجه الخصوص، نَجدُ أنفسَنا أمامَ تبدلاتٍ مجتمعيّةٍ واضحة، ستحفرُ عميقًا في ذاكرةِ الأجيالِ. وقد تغيّرُ في أصلِ النّظرةِ الى المدنيّة التي قامتْ على أساسِها المجتمعاتُ الغربيّةُ. وفي المقابلِ، لنْ يكون بمقدور هذا الغرب، ترميم صورتَه المُهشّمة، مهما اجتهد لذلك؛ لأنّ الواقعَ الذي يعيشُه العالمُ اليوم، لا يُشبه ما كان عليه قبلا، في ظلّ تطور وسائل التواصل الاجتماعيّة، وفي زمن ضاقت فيه رقعة الدنيا.

   وخلاصة القول، إنّ الغربَ اليوم أمام فضيحةٍ كبرى، أمام العالمِ الحرِّ كلِّه، وانكشافٍ غير مسبوقٍ، سيؤسسُ، حتمًا، لتحولاتٍ فكريّةٍ وثقافيّة وقيميّة جديدة. فهل نحن أمامَ واقعٍ استراتجيّ تاريخيّ جديد، قد يُسْهمُ عاجلا أم آجلا، في انهيارِ النّظامِ الرأسماليّ العالميّ؟

 

كُتبتْ هذه المقالة أثناء الحرب الإسرائيليّة المدمّرة على قطاع غزة،  وما صاحبها من دعم غربيّ غير مسبوق لآلة القتل الهمجيّة.     


   بقلم  د. حسين بدرالدين